وأما قوله عز وجل : ولا جنبا إلا عابري سبيل حتى تغتسلوا فإن أهل العلم قد تنازعوا تأويله ، فروى المنهال بن عمرو عن عن زر [ ص: 168 ] رضي الله عنه في قوله : علي ولا جنبا إلا عابري سبيل " إلا أن تكونوا مسافرين ولا تجدون ما تتيممون به وتصلون " .
وروى عن قتادة أبي مجلز عن مثله ، وعن ابن عباس مثله . وروي عن مجاهد أنه قال : " هو الممر في المسجد " . عبد الله بن مسعود
وروى عن عطاء بن يسار مثله في تأويل الآية ، وكذلك روي عن ابن عباس سعيد بن المسيب وعطاء في آخرين من التابعين . واختلف وعمرو بن دينار السلف في ، فروي عن مرور الجنب في المسجد قال : " كان أحدنا يمر في المسجد مجتازا وهو جنب " . وقال جابر : " كان رجال من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم تصيبهم الجنابة فيتوضئون ثم يأتون المسجد فيتحدثون فيه " . عطاء بن يسار
وقال : " الجنب لا يجلس في المجلس ويجتاز " وكذلك روي عن سعيد بن المسيب . وما روي في ذلك عن الحسن عبد الله فإن الصحيح فيه ما تأوله عن شريك عبد الكريم الجزري عن : أبي عبيدة ولا جنبا إلا عابري سبيل قال : " الجنب يمر في المسجد ولا يجلس " ، ورواه عن معمر عبد الكريم عن عن أبي عبيدة عبد الله ؛ ويقال إن أحدا لم يرفعه إلى عبد الله غير وسائر الناس وقفوه . واختلف فقهاء الأمصار في ذلك ، فقال معمر أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وزفر : " لا يدخله إلا طاهرا سواء أراد القعود فيه أو الاجتياز " ، وهو قول والحسن بن زياد مالك بن أنس . وقال والثوري : " لا يمر فيه إلا أن يكون بابه إلى المسجد " . وقال الليث : " يمر فيه ولا يقعد " . الشافعي
والدليل على أن الجنب لا يجوز له أن يجتاز في المسجد ما حدثنا محمد بن بكر قال : حدثنا قال : حدثنا أبو داود قال : حدثنا مسدد قال : حدثنا عبد الواحد بن زياد أفلت بن خليفة قال : حدثتني جسرة بنت دجاجة قالت : سمعت رضي الله عنها تقول : عائشة ولم يفرق فيه بين الاجتياز وبين القعود ، فهو عليهما سواء . جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ووجوه بيوت أصحابه شارعة في المسجد ، فقال : وجهوا هذه البيوت عن المسجد ثم دخل ولم يصنع القوم شيئا رجاء أن تنزل لهم رخصة ، فخرج إليهم بعد فقال : وجهوا هذه البيوت فإني لا أحل المسجد لحائض ولا جنب
والثاني : أنه أمرهم بتوجيه البيوت الشارعة لئلا يجتازوا في المسجد إذا أصابتهم جنابة ؛ لأنه لو أراد القعود لم يكن لقوله : معنى ؛ لأن القعود منهم بعد دخول المسجد لا تعلق له بكون البيوت شارعة إليه ، فدل على أنه إنما أمر بتوجيه البيوت لئلا يضطروا عند الجنابة [ ص: 169 ] إلى الاجتياز في المسجد ؛ إذ لم يكن لبيوتهم أبواب غير ما هي شارعة إلى المسجد . وجهوا هذه البيوت فإني لا أحل المسجد لحائض ولا جنب
وقد روى سفيان بن حمزة عن كثير بن زيد عن المطلب : " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن أذن لأحد أن يمر في المسجد ولا يجلس فيه وهو جنب ، إلا فإنه كان يدخله جنبا ويمر فيه ؛ لأن بيته كان في المسجد علي بن أبي طالب فأخبر في هذا الحديث بحظر النبي صلى الله عليه وسلم الاجتياز كما حظر عليهم القعود . وما ذكر من خصوصية رضي الله عنه فهو صحيح ، وقول الراوي : " لأنه كان بيته في المسجد " ظنا منه ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد أمر في الحديث الأول بتوجيه البيوت الشارعة إلى غيره ولم يبح لهم المرور لأجل كون بيوتهم في المسجد ، وإنما كانت الخصوصية فيه علي رضي الله عنه دون غيره ، كما خص لعلي جعفر بأن له جناحين في الجنة دون سائر الشهداء ، وكما خص بغسل الملائكة له حين قتل جنبا ، وخص حنظلة دحية الكلبي بأن جبريل كان ينزل على صورته ، وخص بإباحة لبس الحرير لما شكا من أذى القمل ؛ فثبت بذلك أن سائر الناس ممنوعون من دخول المسجد مجتازين وغير مجتازين . الزبير
وأما ما روى : " كان أحدنا يمر في المسجد مجتازا وهو جنب " فلا حجة فيه ؛ لأنه لم يخبر أن النبي صلى الله عليه وسلم علم بذلك فأقره عليه ، وكذلك ما روي عن جابر : " كان رجال من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم تصيبهم الجنابة فيتوضئون ثم يأتون المسجد فيتحدثون فيه " لا دلالة فيه للمخالف ؛ لأنه ليس فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم أقرهم عليه بعد علمه بذلك منهم ولأنه جائز أن يكون ذلك في زمان النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يحظر عليهم ذلك ؛ ولو ثبت جميع ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم ثم روي ما وصفنا لكان خبر الحظر أولى ؛ لأنه طارئ على الإباحة لا محالة فهو متأخر عنها ولما ثبت باتفاق الفقهاء حظر القعود فيه لأجل الجنابة تعظيما لحرمة المسجد وجب أن يكون كذلك حكم الاجتياز تعظيما للمسجد ؛ ولأن العلة في حظر القعود فيه هو الكون فيه جنبا وذلك موجود في الاجتياز ، وكما أنه لما كان محظورا عليه القعود في ملك غيره بغير إذنه كان حكم الاجتياز فيه حكم القعود فكان الاجتياز بمنزلة القعود ، كذلك القعود في المسجد لما كان محظورا وجب أن يكون كذلك الاجتياز اعتبارا بما ذكرنا ؛ والعلة في الجميع حظر الكون فيه . عطاء بن يسار
وأما قوله تعالى : ولا جنبا إلا عابري سبيل حتى تغتسلوا وتأويل من تأوله على إباحة الاجتياز في المسجد ، فإن ما روي عن علي في تأويله أن المراد المسافر الذي لا يجد الماء فيتيمم ، أولى من تأويل من تأوله على الاجتياز في المسجد وذلك [ ص: 170 ] لأن قوله تعالى : وابن عباس لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى نهي عن فعل الصلاة نفسها في هذه الحال لا عند المسجد ؛ لأن ذلك حقيقة اللفظ ومفهوم الخطاب ، وحمله على المسجد عدول بالكلام عن حقيقته إلى المجاز بأن تجعل الصلاة عبارة عن موضعها ، كما يسمى الشيء باسم غيره للمجاورة أو لأنه تسبب منه ، كقوله تعالى : لهدمت صوامع وبيع وصلوات يعني به مواضع الصلوات .
ومتى أمكننا استعمال اللفظ على حقيقته لم يجز صرفه عنها إلى المجاز إلا بدلالة ، ولا دلالة توجب صرف ذلك عن الحقيقة وفي نسق التلاوة ما يدل على أن المراد حقيقة الصلاة ، وهو قوله تعالى : حتى تعلموا ما تقولون وليس للمسجد قول مشروط يمنع من دخوله لتعذره عليه عند السكر ، وفي الصلاة قراءة مشروطة ، فمنع من أجل العذر عن إقامتها عن فعل الصلاة ؛ فدل ذلك على أن المراد حقيقة الصلاة ، فيكون تأويل من تأوله عليها موافقا لظاهرها وحقيقتها .