باب غسل اللحية وتخليلها
قال الله تعالى : فاغسلوا وجوهكم وقد بينا أن الوجه ما واجهك من الإنسان ، فاحتمل أن تكون لأنها تواجه المقابل له غير مغطاة في الأكثر كسائر الوجه ؛ وقد يقال أيضا : خرج وجهه ، إذا خرجت لحيته ؛ فليس يمتنع أن تكون اللحية من الوجه فيقتضي ظاهر ذلك وجوب غسلها ؛ ويحتمل أن يقال : ليست من الوجه وإنما الوجه ما واجهك من بشرته دون الشعر النابت عليه بعدما كانت البشرة ظاهرة دونه . ولمن قال بالقول الأول أن يقول : نبات الشعر عليه بعد ظهور البشرة لا يخرجه من أن يكون من الوجه ، كما أن شعر الرأس من الرأس ، وقد قال الله تعالى : اللحية من الوجه وامسحوا برءوسكم فلو كان ماسحا على الرأس وفاعلا لمقتضى الآية عند جميع المسلمين ، فكذلك نبات الشعر على الوجه لا يخرجه من أن يكون منه . [ ص: 342 ] ولمن يأبى أن يكون من الوجه أن يفرق بينه وبين شعر الرأس أن شعر الرأس يوجد مع الصبي حين يولد فهو بمنزلة الحاجب في كون كل واحد منهما من العضو الذي هو فيه ، وشعر اللحية غير موجود معه في حال الولادة وإنما نبت بعدها ؛ فلذلك لم يكن من الوجه . وقد ذكر عن مسح على شعر رأسه من غير إبلاغ الماء بشرته السلف اختلاف في ، فروى غسل اللحية وتخليلها ومسحها عن إسرائيل قال : ( رأيت جابر القاسم ومجاهدا وعطاء يمسحون لحاهم ) وكذلك روي عن والشعبي . طاوس
وروى حريز عن زيد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال : ( رأيته توضأ ولم أره خلل لحيته وقال هكذا رأيت رضي الله عنه توضأ ) . وقال عليا يونس : ( رأيت أبا جعفر لا يخلل لحيته ) . فلم ير أحد من هؤلاء غسل اللحية واجبا .
وروى عن ابن جريج : ( أن نافع كان يبل أصول شعر لحيته ويغلغل بيديه في أصول شعرها حتى يكثر القطر منها ) ، وكذلك روي عن ابن عمر عبيد بن عمير وابن سيرين . فهؤلاء كلهم روي عنهم وسعيد بن جبير ، ولكنه لم يثبت عنهم أنهم رأوا ذلك واجبا كغسل الوجه . وقد كان غسل اللحية متقصيا في أمر الطهارة ، كان يدخل الماء عينيه ويتوضأ لكل صلاة ، وكان ذلك منه استحبابا لا إيجابا . ولا خلاف بين فقهاء الأمصار في أن ابن عمر ليس بواجب ؛ وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم : تخليل اللحية ، وروي عن أنه خلل لحيته أنس وروى أن النبي صلى الله عليه وسلم خلل لحيته وقال : بهذا أمرني ربي عثمان عن النبي صلى الله عليه وسلم : وعمار . أنه خلل لحيته في الوضوء
وروى عن الحسن قال : جابر . قال وضأت رسول الله صلى الله عليه وسلم لا مرة ولا مرتين ولا ثلاثا ، فرأيته يخلل لحيته بأصابعه كأنها أسنان مشط : وروي أخبار أخر في صفة وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس فيها ذكر تخليل اللحية ؛ منها حديث أبو بكر عبد خير عن ، وحديث علي عبد الله بن زيد وحديث وغيرهم ، كلهم ذكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم غسل وجهه ثلاثا ولم يذكروا تخليل اللحية فيه . وغير جائز إيجاب تخليل اللحية ولا غسلها بالآية ؛ وذلك لأن الآية إنما أوجبت غسل الوجه ، والوجه ما واجهك منه ، وباطن اللحية ليس من الوجه كداخل الفم والأنف لما لم يكونا من الوجه لم يلزم تطهيرهما في الوضوء على جهة الوجوب ؛ فإن ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم تخليلها أو غسلها كان ذلك منه استحبابا لا إيجابا كالمضمضة والاستنشاق وذلك لأنه لما لم تكن في الآية دلالة على وجوب غسلها أو تخليلها لم يجز لنا أن نزيد في الآية بخبر الواحد ، وجميع ما روي من أخبار التخليل إنما هي أخبار [ ص: 343 ] آحاد لا يجوز إثبات الزيادة بها في نص القرآن . وأيضا فإن التخليل ليس بغسل فلا يجوز أن يكون موجبا بالآية ، ولما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم التخليل ثبت أن غسلها غير واجب لأنه لو كان واجبا لما تركه إلى التخليل . وقد اختلف أصحابنا في تخليل اللحية ومسحها ، فروى الربيع بنت معوذ المعلى عن عن أبي يوسف قال : سألته عن تخليل اللحية في الوضوء فقال : ( لا يخللها ويجزيه أن يمر بيده على ظاهرها ) قال : فإنما مواضع الوضوء منها الظاهر وليس تخليل الشعر من مواضع الوضوء ؛ وبه قال أبي حنيفة . قال ابن أبي ليلى : ( وأنا أخلل ) . وقال أبو يوسف عن بشر بن الوليد في نوادره : ( يمسح ما ظهر من اللحية وإن كانت عريضة ، فإن لم يفعل فعليه الإعادة إن صلى ) . وذكر أبي يوسف ابن شجاع عن عن الحسن في الرجل يتوضأ : ( أنه ينبغي له إذا غسل وجهه أن يمر الماء على لحيته ، فإن أصاب لحيته من الماء قدر ثلث أو ربع أجزأه ذلك ، وإن كان أقل من ذلك لم يجزه ) ، وهو قول زفر ، وبه أخذ أبي حنيفة . وقال الحسن : ( يجزيه إذا غسل وجهه أن لا يمس لحيته بشيء من الماء ) . وقال أبو يوسف ابن شجاع : ( لما لم يلزمه غسلها صار الموضع الذي ينبت عليه الشعر من الوجه بمنزلة الرأس ؛ إذ لم يجب غسله ، فكان الواجب مسحها كمسح الرأس فيجزي منه الربع كما قالوا في مسح الرأس ) . قال : لا تخلو اللحية من أن تكون من الوجه فيلزمه غسلها كغسل بشرة الوجه مما ليس عليه شعر ، وأن لا تكون من الوجه فلا يلزمه غسلها ولا مسحها بالآية ؛ فلما اتفق الجميع على سقوط غسلها دل ذلك على أنها ليست من الوجه ؛ لأنها لو كانت منه لوجب غسلها ، ولما سقط غسلها لم يجز إيجاب مسحها ؛ لأن فيه إثبات زيادة في الآية ، كما لم يجز إيجاب المضمضة والاستنشاق لما فيه من الزيادة في نص الكتاب . وأيضا لو وجب مسحها كان فيه إثبات فرض المسح والغسل في عضو واحد وهو الوجه من غير ضرورة ، وذلك خلاف الأصول . . أبو بكر
فإن قيل : قد يجتمع فرض المسح والغسل في عضو واحد بأن يكون على يده جبائر فيمسح عليها ويغسل باقي العضو . قيل له : إنما يجب ذلك للضرورة والعذر ، وليس في نبات اللحية ضرورة في ترك الغسل ، والوجه بمنزلة سائر الأعضاء التي أوجب الله تعالى طهارتها ، فلا يجوز اجتماع الغسل والمسح فيه من غير ضرورة ، ويقتضي ما قال من سقوط فرض غسلها ومسحها جميعا وإن كان المستحب إمرار الماء عليها . أبو يوسف