قوله تعالى : إطعام عشرة مساكين روي عن علي وعمر وعائشة وسعيد بن المسيب وسعيد بن جبير وإبراهيم ومجاهد في والحسن : " كل مسكين نصف صاع من بر " ؛ وقال كفارة اليمين عمر : " أو صاعا من تمر " وهو قول أصحابنا إذا أعطاهم الطعام تمليكا . وقال وعائشة ابن عباس وابن عمر وزيد بن ثابت في آخرين : مد من بر لكل مسكين " وهو قول وعطاء مالك . والشافعي
في الإطعام من غير تمليك واختلف في ، فروي عن الإطعام من غير تمليك علي ومحمد بن كعب والقاسم وسالم والشعبي وإبراهيم : " يغديهم ويعشيهم " وهو قول أصحابنا وقتادة ومالك بن أنس والثوري . وقال والأوزاعي : وحبة واحدة تجزي " . وقال الحسن البصري الحكم : " لا يجزي الإطعام حتى يعطيهم " . وقال : " مدين من طعام ومد لإدامه ، ولا يجمعهم فيطعمهم ولكن يعطيهم " . وروي عن سعيد بن جبير ابن سيرين وجابر بن زيد ومكحول وطاوس : " يطعمهم أكلة واحدة " ، وروي عن والشعبي مثل ذلك . أنس
وقال : " لا يعطيهم جملة ولكن يعطي كل مسكين مدا " . قال الشافعي : قال الله تعالى : أبو بكر فكفارته إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم فاقتضى ظاهره جواز الإطعام بالأكل من غير إعطاء ألا ترى إلى قوله تعالى : ويطعمون الطعام على حبه مسكينا قد عقل منه إطعامهم بالإباحة لهم من غير تمليك ؟ ويقال : فلان يطعم الطعام ، وإنما مرادهم دعاؤه إياهم إلى أكل طعامه ، فلما كان الاسم يتناول الإباحة وجب جوازه ، وإذا جاز إطعامهم على وجه الإباحة من غير تمليك ، فالتمليك أحرى بالجواز لأنه أكثر من الإباحة ؛ ولا خلاف في جواز التمليك ، وإنما قالوا : " يغديهم ويعشيهم " لقوله تعالى : من أوسط ما تطعمون أهليكم وهو مرتان في اليوم غداء وعشاء ؛ لأن الأكثر في العادة ثلاث مرات والأقل واحدة والأوسط مرتان . وقد روى عن ليث ابن بريدة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إذا كان خبزا يابسا فهو غداؤه وعشاؤه .
وإنما قال أصحابنا : إذا أعطاهم كان من البر نصف صاع ومن الشعير والتمر صاعا ، لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث في فدية الأذى : كعب بن عجرة وفي حديث آخر : أو أطعم ثلاثة آصع من طعام ستة مساكين أطعم ستة آصع من تمر ستة [ ص: 118 ] مساكين فجعل لكل مسكين صاعا من تمر أو نصف صاع من بر ، ولم يفرق بين تقدير الطعام في فدية الأذى وكفارة اليمين ، فثبت أن كفارة اليمين مثلها . وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم في كفارة الظهار : والوسق ستون صاعا . ولما ثبت في كفارة الظهار لكل مسكين صاع من تمر كانت كفارة اليمين مثلها لاتفاق الجميع على تساويهما في مقدار ما يجب فيهما من الطعام ، وإذا ثبت من التمر صاع وجب أن يكون من البر نصف صاع ؛ لأن كل من أوجب فيها صاعا من التمر أوجب من البر نصف صاع . وسقا من تمر لستين مسكينا
قوله تعالى : من أوسط ما تطعمون أهليكم روي عن قال : " كان لأهل ابن عباس المدينة قوت وكان للكبير أكثر مما للصغير وللحر أكثر مما للمملوك ، فنزلت : من أوسط ما تطعمون أهليكم ليس بأفضله ولا بأخسه " وروي عن مثله . قال سعيد بن جبير : بين أبو بكر أن المراد الأوسط في المقدار ، لا بأن يكون مأدوما . وروي عن ابن عباس قال : " أوسطه الخبز والتمر والخبز والزيت ، وخير ما نطعم أهلنا الخبز واللحم " وعن ابن عمر عبيدة : " الخبز والسمن " . وقال أبو رزين : " الخبز والتمر والخل " . وقال : " أفضله اللحم وأوسطه السمن وأحسنه التمر مع الخبز " روي عن ابن سيرين مثله . عبد الله بن مسعود
قال أبو بكر سلمة بن صخر أن يكفر عن الظهار بإعطاء كل مسكين صاعا من تمر ، ولم يأمره معه بشيء آخر غيره من الإدام ؛ وأمر أن يتصدق بثلاثة آصع من طعام على ستة مساكين ، ولم يأمره بالإدام كعب بن عجرة ولا فرق عند أحد بين كفارة الظهار وكفارة اليمين في مقدار الطعام فثبت بذلك أن الإدام غير واجب مع الطعام وأن الأوسط المراد بالآية الأوسط في مقدار الطعام لا في ضم الإدام إليه ؛ وقوله تعالى : أمر النبي صلى الله عليه وسلم فكفارته إطعام عشرة مساكين عموم في جميع من يقع عليه الاسم منهم ، فيصح الاحتجاج به في جواز إعطاء مسكين واحد جميع الطعام في عشرة أيام كل يوم نصف صاع ؛ لأنا لو منعناه في اليوم الثاني كنا قد خصصنا الحكم في بعض ما انتظمه الاسم دون بعض ، لا سيما فيمن قد دخل في حكم الآية بالاتفاق ، وهو قول أصحابنا .
وقال مالك : لا يجزي . فإن قال قائل : لما ذكر عشرة مساكين لم يجز الاقتصار على من دونهم ، كقوله تعالى : والشافعي فاجلدوهم ثمانين جلدة وقوله تعالى : أربعة أشهر وعشرا وسائر الأعداد المذكورة لا يجوز الاقتصار على ما دونها ، كذلك غير جائز الاقتصار على الأقل من العدد المذكور . قيل له : لما كان القصد في [ ص: 119 ] ذلك سد جوعة المساكين لم يختلف فيه حكم الواحد والجماعة بعد أن يتكرر عليهم الإطعام أو على واحد منهم في عشرة أيام على حسب ما يحصل به سد الجوعة ، فكان المعنى المقصود بإعطاء العشرة موجودا في الواحد عند تكرار الدفع والإطعام في عدد الأيام .
وليس يمتنع إطلاق اسم إطعام العشرة على واحد بتكرار الدفع ؛ إذ كان المقصد فيه تكرار الدفع لا تكرار المساكين ، كما قال تعالى : يسألونك عن الأهلة وهو هلال واحد ، فأطلق عليه اسم الجمع لتكرار الرؤية في الشهور . وأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالاستنجاء بثلاثة أحجار ، ولو استنجى بحجر له ثلاثة أحرف أجزأه . وكذلك أمر برمي الجمار بسبع حصيات ، ولو رمى بحصاة واحدة سبع مرات أجزأه ؛ لأن المقصد فيه حصول الرمي سبع مرات ، والمقصد في الاستنجاء حصول المسحات دون عدد الأحجار .
فكذلك لما كان المقصد في إخراج الكفارة سد جوعة المساكين لم يختلف حكم الواحد إذا تكرر ذلك عليه في الأيام وبين الجماعة . ويدل على ذلك أيضا قوله تعالى : أو كسوتهم ومعلوم أن كسوتهم عشرة أثواب ، فصار تقديره : " أو عشرة أثواب " ثم لم يخصصها بمسكين واحد ولا بجماعة ، فوجب أن يجزي إعطاؤها لواحد منهم ، ألا ترى أنه يجوز أن تقول أعطيت كسوة عشرة مساكين مسكينا واحدا ؟ فقوله تعالى : أو كسوتهم يدل من هذا الوجه على أنه غير مقصور على أعداد المساكين عشرة ، ويدل أيضا من الوجه الذي دل عليه ذكر الطعام على الوجه الذي ذكرنا ، ولا تجزي الكسوة عندهم إذا أعطاها مسكينا واحدا إلا أن يعطيه كل يوم ثوبا ؛ لأنه لما ثبت ما وصفنا في الطعام من تفريقه في الأيام ، وجب مثله في الكسوة ؛ إذ لم يفرق واحد بينهما .
وأجاز أصحابنا إعطاء قيمة الطعام والكسوة لما ثبت أن المقصد فيه حصول النفع للمساكين بهذا القدر من المال ويحصل لهم من النفع بالقيمة مثل حصوله بالطعام والكسوة . ولما صح إعطاء القيمة في الزكوات من جهة الآثار والنظر ، وجب مثله في الكفارة ؛ لأن أحدا لم يفرق بينهما ، ومع ذلك فليس يمتنع إطلاق الاسم على من أعطى غيره دراهم يشتري بها ما يأكله ويلبسه بأن يقال : قد أطعمه وكساه ؛ وإذا كان إطلاق ذلك سائغا انتظمه لفظ الآية ، ألا ترى أن حقيقة الإطعام أن يطعمه إياه بأن يبيحه له فيأكله ؟ ومع ذلك فلو ملكه إياه ولم يأكله المسكين وباعه أجزأه ، وإن لم يتناوله حقيقة اللفظ بحصول المقصد في وصول هذا القدر من المال إليه ، وإن لم يطعمه ولم ينتفع به من جهة الأكل . [ ص: 120 ] وكذلك لو أعطاه كسوة فلم يكتس بها وباعها ، وإن لم يكن له كاسيا بإعطائه ؛ إذ كان موصلا إليه هذا القدر من المال بإعطائه إياه فثبت بذلك أنه ليس المقصد حصول المطعم والاكتساء ، وأن المقصد وصوله إلى هذا القدر من المال ، فلا يختلف حينئذ حكم الدراهم والثياب والطعام ، ألا ترى أن ثم قال : النبي صلى الله عليه وسلم قدر في صدقة الفطر نصف صاع من بر أو صاعا من تمر أو شعير ؟ فأخبر أن المقصود حصول الغنى لهم عن المسألة لا مقدار الطعام بعينه ؛ إذ كان الغنى عن المسألة يحصل بالقيمة كحصوله بالطعام . أغنوهم عن المسألة في هذا اليوم
فإن قال قائل : لو جازت القيمة وكان المقصد فيه حصول هذا القدر من المال للمساكين لما كان لذكر الإطعام والكسوة فائدة مع تفاوت قيمتها في أكثر الأحوال ، وفي ذكره الطعام أو الكسوة دلالة على أنه غير جائز أن يتعداهما إلى القيمة ، وأنه ليس المقصد حصول النفع بهذا القدر من المال دون عين الطعام والكسوة . قيل له : ليس الأمر على ما ظننت ؛ وفي ذكره الطعام والكسوة أعظم الفوائد ، وذلك أنه ذكرهما ودللنا بما ذكر على جواز إعطاء قيمتهما ليكون مخيرا بين أن يعطي حنطة أو يطعم أو يكسو أو يعطي دراهم قيمة عن الحنطة أو عن الثياب ، فيكون موسعا في العدول عن الأرفع إلى الأوكس إن تفاوتت القيمتان ، أو عن الأوكس إلى الأرفع ، أو يعطى أي المذكورين بأعيانهما كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : ومن وجبت في إبله بنت لبون فلم توجد أخذ منه بنت مخاض وشاتان أو عشرون درهما فخيره في ذلك ، وهو يقدر على أن يشتري بنت لبون وهي الفرض المذكور ؛ وكما جعل الدية مائة من الإبل واتفقت الأمة على أنها من الدراهم والدنانير أيضا قيمة للإبل على اختلافهم فيها ، وكمن تزوج امرأة على عبد وسط فإن جاء به بعينه قبل منه وإن جاء بقيمته قبلت منه أيضا . ولم يبطل جواز أخذ القيمة في هذه المواضع حكم التسمية لغيرها ، فكذلك ما وصفنا .
ألا ترى أنه خيره بين الكسوة والطعام والعتق ؟ فالقيمة مثل أحد هذه الأشياء وهو مخير بينها وبين المذكور وإن كانت قد تختلف في الطعام والكسوة لأن في عدوله إلى الأرفع زيادة فضيلة وفي اقتصاره على الأوكس رخصة وأيهما فعل فهو المفروض ، وهذا مثل ما نقول في القراءة في الصلاة إن المفروض منها مقدار آية ، فإن أطال القراءة كان الجميع هو المفروض والمفروض من الركوع هو الجزء الذي يسمى به راكعا ، فإن أطال كان الفرض جميع المفعول منه ، ألا ترى أنه لو أطال الركوع كان [ ص: 121 ] مدركه في آخر الركوع مدركا لركعته ؟ وكذلك لا يمتنع أن يكون المفروض من الكفارة قيمة الأوكس من الطعام أو الكسوة ، فإن عدل إلى قيمة الأرفع كان هو المفروض أيضا .
وقد اختلف في فقال أصحابنا : " الكسوة في كفارة اليمين لكل مسكين ثوب إزار أو رداء أو قميص أو قباء أو كساء " . وروى مقدار الكسوة ، عن ابن سماعة محمد أن السراويل تجزي ، وأنه لو حنث إذا كان سراويل الرجال . حلف لا يشتري ثوبا فاشترى سراويل
وروى هشام عن محمد أنه لا يجزي السراويل ولا العمامة ؛ وكذلك روى بشر عن . أبي يوسف
وقال مالك : " إن كسا الرجل كسا ثوبا وللمرأة ثوبين درعا وخمارا ، وذلك أدنى ما تجزي فيه الصلاة ، ولا يجزي ثوب واحد للمرأة ولا تجزي العمامة " . وقال والليث : " تجزي العمامة " . وقال الثوري : " تجزي العمامة والسراويل والمقنعة " . قال الشافعي : روي عن أبو بكر عمران بن حصين وإبراهيم والحسن ومجاهد وطاوس ثوب لكل مسكين " . قال والزهري : ظاهره يقتضي ما يسمى به الإنسان مكتسيا إذا لبسه ، ولابس السراويل ليس عليه غيره أو العمامة ليس عليه غيرها لا يسمى مكتسيا كلابس القلنسوة ، فالواجب أن لا يجزي السراويل والعمامة ولا الخمار ؛ لأنه مع لبسه لأحد هذه الأشياء يكون عريانا غير مكتس ، وأما الإزار والقميص ونحوه فإن كل واحد من ذلك يعم بدنه حتى يطلق عليه اسم المكتسي ، فلذلك أجزأه . أبو بكر