ولما كان من أشد العقاب الإذلال، حذرهموه بالتذكير بما كانوا فيه من الذل؛ لأنه أبعث على الشكر وأزجر عن الكفر فقال: واذكروا وذكر المفعول به فقال: إذ أنتم أي: في أوائل الإسلام قليل أي: عددكم.
ولما كان وجود مطلق الاستضعاف دالا على غاية الضعف بنى للمفعول قوله: مستضعفون أي: لا منفذ عندكم في الأرض أطلقها والمراد مكة، لأنها لعظمها كأنها هي الأرض كلها، ولأن حالهم كان في بقية البلاد كحالهم فيها أو قريبا من ذلك، ولذلك عبر بالناس في قوله: تخافون أي: في حال اجتماعكم فكيف عند الانفراد أن يتخطفكم أي: على سبيل التدريج الناس أي: كما تتخطف الجوارح الصيود، فحذرهم سبحانه - بالتنبيه على أنه قادر على أن يعيدهم إلى ما كانوا عليه - من هذه الأحوال بالمخالفة بين كلمتهم وترك التسبب إلى اجتماعها بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وفي ذلك [ ص: 260 ] أيضا إشارة إلى أنهم لما كانوا في تلك الحالة التي هي في غاية الضعف، وكانت كلمتهم مجتمعة على أمر الله الذي هو توحيده وطاعة رسوله، أعقبهم الإيواء في دار منيعة، قد أيدهم بالنصر وأحسن رزقهم، وذلك معنى قوله تعالى مسببا عما قبله: فآواكم أي: في دار الهجرة رحمة لكم وأيدكم بنصره أي: بأهلها مع الملائكة ورزقكم من الطيبات أي: الغنائم الكاملة الطيبة بالإحلال وعدم المنازع التي لم تحل لأحد قبلكم وغيرها لعلكم تشكرون أي: ليكون حالكم حال من يرجى شكره، فيكون بعيدا عن المنازعة في الأنفال، وذلك إشارة إلى أنهم مهما استمروا على تلك الحالة، كان - بإقبالهم على مثل ما أتاهم به وزادهم من فضله - أن جعلهم سادة في الدارين بما يهب لهم من الفرقان الآتي في الآية بعدها والتوفيق عند إتيانه، فالآية منصبة إلى الصحابة بالقصد الأول وهي صالحة للعرب كافة فتنصرف إليهم بالقصد الثاني; قال : كان هذا الحي من العرب أذل الناس وأشقاهم عيشا وأجوعهم بطنا وأعراهم جلدا وأبينهم ضلالا، من عاش منهم عاش شقيا ومن مات منهم تردى في النار معكوفين على رأس الحجرين الشديدين: قتادة فارس والروم، يؤكلون ولا يأكلون، وما في بلادهم شيء عليه يحسدون حتى جاء الله بالإسلام، فمكن لهم من البلاد ووسع لهم في الرزق والغنائم وجعلهم ملوكا على رقاب الناس، وبالإسلام أعطى الله ما رأيتم فاشكروا الله على [ ص: 261 ] نعمه، فإن ربكم يحب شكره والشاكر في مزيد من الله تعالى.