ولما دام ما ترى من كشف سرائرهم، شرع سبحانه يقيم لهم الدليل على فسقهم وخيانتهم بتذكيرهم ما بدا من بعضهم من النقض بعد أن أثبت فيما مضى أنهم شرع واحد بعضهم أولياء بعض، وفيما يأتي أنهم بعضهم من بعض، فقال معبرا بما يفيد أنهم تمكنوا من ضد [ ص: 386 ] الإيمان تمكنا صار به كأنه في حوزتهم: اشتروا أي: لجوا في أهويتهم بعد قيام الدليل الذي لا يشكون فيه فأخذوا بآيات الله أي: الذي لا شيء مثله في جلال ولا جمال على ما لها من العظم في أنفسها وبإضافتها إليه ثمنا قليلا من أعراض الدنيا فرضوا بها مع مصاحبة الكفر، وذلك أن أطعمهم أكلة فنقضوا بها عهودهم أبا سفيان فصدوا أي: فسبب لهم ذلك وأداهم إلى أن صدوا عن سبيله أي: من يريد السير عليه ومنعوا من الدخول في الدين أنفسهم ومن قدروا على منعه.
ولما دل على ما أخبر به من فساد قلوبهم، استأنف بيان ما استحقوه من عظيم الذم بقوله معجبا منهم: إنهم ساء ما وبين عراقتهم في القبائح وأنها في جبلتهم بذكر الكون فقال: كانوا يعملون أي: يجددون عمله في كل وقت، وكأنه سبحانه يشير بهذا إلى ما فعلت عضل والقارة بعاصم بن ثابت ، ذكر وخبيب بن عدي في السيرة عن ابن إسحاق رضي الله عنه - عاصم بن عمر في الصحيح عن والبخاري رضي الله عنه -، كل يزيد على صاحبه وقد جمعت بين حديثيهما أبي هريرة عضل والقارة فقالوا: يا رسول الله، إن فينا إسلاما فابعث معنا نفرا من أصحابك يفقهوننا في الدين ويقرئوننا القرآن ويعلموننا شرائع الإسلام [ ص: 387 ] فبعث معهم نفرا ستة - وقال عشرة - وأمر عليهم البخاري: عاصم بن ثابت فخرج معهم، حتى إذا كانوا بالرجيع -ماء لهذيل- غدروا بهم فاستصرخوا عليهم هذيلا، فلما أتوهم أخذوا أسيافهم ليقاتلوهم، فقالوا: إنا والله لا نريد قتلكم، ولكنا نريد أن نصيب بكم شيئا من أهل مكة، ولكن عهد الله وميثاقه أن لا نقتل منكم أحدا، فأما فلم يقبل وقاتل حتى قتل هو وناس من أصحابه، ونزل منهم ثلاثة نفر على العهد والميثاق، فلما استمكنوا منهم أطلقوا أوتار قسيهم فربطوهم بها، فقال رجل منهم: هذا أول الغدر، والله لا أصحبكم، إن لي بهؤلاء أسوة - يريد القتلى، فجرروه وعالجوه فأبى أن يصحبهم فقتلوه; فانطلقوا عاصم بخبيب وزيد بن الدثنة حتى باعوهما بمكة فقتلوهما. أنه قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أحد رهط من
وقصة وفي تاريخ العرنيين الذين قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأظهروا الإسلام ثم خرجوا إلى لقاح النبي صلى الله عليه وسلم فقتلوا الراعي واستاقوا اللقاح بعد ما رأوا من الآيات، فبعث النبي صلى الله عليه وسلم في آثارهم فقتلهم; عن ابن الفرات القتبي أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث عبد الله بن عوسجة البجلي إلى بني حارثة بن عمرو بن قرط بكتاب فرقعوا دلوهم بالكتاب فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ما لهم! أذهب الله عقولهم، فهم أهل رعدة وكلام مختلط; ولما خرج أهل مكة بعد أن عاملهم صلى الله عليه وسلم بغاية [ ص: 388 ] الإحسان أعتقهم وعفا عنهم بعد تلك الحروب والأذى في المبالغة في النكايات التي لا يعفو عن مثلها إلا الأنبياء، خرجوا معه إلى حنين غير مريدين لنصره ولا محبين لعلو أمره، بل هم الذين انهزموا بالناس - كما نقله عن البغوي ; وقال قتادة أبو حيان ويقال: إن الطلقاء من أهل مكة فروا وقصدوا إلقاء الهزيمة في المسلمين وبلغ فلهم مكة. انتهى.
وقال : وخرج رجال الواقدي مكة مع النبي صلى الله عليه وسلم فلم يتغادر منهم أحد على غير دين ركبانا ومشاة، ينظرون لمن تكون الدائرة فيصيبون من الغنائم، ولا يكرهون أن تكون الصدمة بمحمد وأصحابه، وقال هو وغيره: فلما كانت الهزيمة حيث كانت والدائرة على المسلمين تكلم قوم بما في أنفسهم من الكفر والضغن والغش، وذكروا أنه عزم ناس منهم على قتل النبي صلى الله عليه وسلم ولكن الله منعه منهم.
هذا بعض ما غدر فيه كفار العرب، وأما اليهود فكلهم نقض: بنو قينقاع ثم النضير ثم قريظة ثم أهل خيبر، حتى كان ذلك سبب إخراجهم منها وإجلائهم إلى بلاد الشام، ويجوز أن يكون ذلك إشارة إلى أنهم قد تبين لهم مثل الصبح جميعا ما أخبرهم به النبي صلى الله عليه وسلم، فلما لم يرجعوا لمجرد أهوائهم كانوا قد اشتروا بذلك ثمنا قليلا، وهو [ ص: 389 ] التمتع بما هم فيه مدة حياتهم على ما صاروا إليه من سفول الكلمة وإدبار الأمر، فمن قاده هواه إلى ترك السعادة العظمى لهذا العرض الزائل اليسير كان غير مأمون على شيء لأنه رهينة داعي الهوى وأمر الشيطان؛ لأنه أول ما بدأ بنفسه فغدر بها وغشها غير ناظر في مصلحة ولا مفكر في عاقبة.