ثم زادهم جرأة عليهم بالإشارة إلى ضعف مستندهم حيث كان مخلوقا مثلهم بقوله: اتخذوا أي: كلفوا أنفسهم العدول عن الله القادر على كل شيء وأخذوا أحبارهم أي: من علماء اليهود، والحبر في الأصل العالم من أي طائفة كان ورهبانهم أي: من زهاد النصارى، والراهب في الأصل من تمكنت الرهبة في قلبه فظهرت آثارها على وجهه ولباسه، فاختص في العرف بعلماء النصارى أصحاب الصوامع أربابا أي: آلهة لكونهم يفعلون من تحريم ما حرموا وتحليل ما حللوا; وأشار إلى سفول أمرهم بقوله: ما يختص به الرب من دون الله أي: الحائز لجميع صفات الجلال، فكانوا يعولون عليهم ويسندون أمرهم إليهم حتى أن كانوا ليتبعونهم في الحلال والحرام والمسيح أي: المبارك الذي هو أهل لأن يمسح بدهن القدس وأن يمسح غيره ابن مريم أي: [ ص: 442 ] اتخذوه كذلك لكونهم جعلوه ابنا فأهلوه للعبادة بذلك مع كونه ابن امرأة، فهو لا يصلح للإلهية بوجه لمشاركته للآدميين في الحمل والولادة والتربية والأكل والشرب وغير ذلك من أحوال البشر الموجبة للحاجة المنافية للإلهية، ومع تصريحه لهم بأنه عبد الله ورسوله، فتطابق العقل والنقل على أنه ليس بإله.
ولما قبح عليهم ما اختاروه لأنفسهم، قبحه عليهم من جهة مخالفته لأمره تعالى فقال: وما أي: فعلوا ذلك والحال أنهم ما أمروا أي: من كل من له الأمر من أدلة العقل والنقل إلا ليعبدوا أي: ليطيعوا على وجه التعبد إلها واحدا أي: لا يقبل القسمة بوجه لا بالذات ولا بالمماثلة، وذلك معنى وصفه بأنه: لا إله إلا هو أي: لا يصلح أن يكون معه إله آخر، فلما تعين ذلك في الله وكانت رتبته زائدة أبعد عما أشركوا به، نزهه بقوله: سبحانه أي: بعدت رتبته وعلت عما يشركون في كونه معبودا أو مشروعا; ذكر أبو محمد إسحاق بن إبراهيم البستي القاضي في تفسيره وغيره عن رضي الله عنه قال: عدي بن حاتم اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون قلت: يا رسول! [ ص: 443 ] إنا لم نكن نعبدهم! قال: أجل. أليس كانوا يحلون لكم ما حرم الله فتستحلونه ويحرمون عليكم ما أحل الله فتحرمونه؟ قلت: بلى، قال: تلك عبادتهم. أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي عنقي صليب من ذهب فقال: اقطعه، فقطعته ثم أتيته وهو يقرأ سورة براءة: