ولما بكتهم على وجه الإعراض لأجل التخلف والحلف عليه كاذبا، أقبل إليه صلى الله عليه وسلم بالعتاب في لذيذ الخطاب على الاسترسال في اللين لهم والائتلاف وأخذ العفو وترك الخلاف إلى هذا الحد، فقال مؤذنا بأنهم ما تخلفوا إلا بإذنه صلى الله عليه وسلم لأعذار ادعوها كاذبين فيها كما كذبوا في هذا الحلف، مقدما للدعاء على العتاب لشدة الاعتناء بشأنه واللطف به صلى الله عليه وسلم: عفا الله أي: ذو الجلال والإكرام عنك وهذا كما كانت عادة العرب في مخاطبتهم لأكابرهم بأن يقولوا: أصلح الله الأمير، والملك - ونحو ذلك.
ولما كان من المعلوم أنه لا يأذن إلا لما يرى أنه يرضي الله من تألفهم ونحوه، بين أنه سبحانه يرضى منه ترك الإذن فقال كناية عن ذلك: لم أذنت لهم أي: في التخلف عنك تمسكا بما تقدم من الأمر باللين لهم والصفح عنهم موافقا لما جبلت عليه من محبة الرفق، وهذا إنما [ ص: 482 ] كان في أول الأمر لخوف التنازع والفتنة، وأما الآن فقد علا الدين وتمكن أمر المؤمنين فالمأمور به الإغلاظ على المنافقين فهلا تركت الإذن لهم حتى يتبين لك أي: غاية البيان الذين صدقوا أي: في التزام الأوامر بما أقروا به من كلمة التوحيد وتعلم الكاذبين أي: فيما أظهروا من الإيمان باللسان، فإنك إن لم تأذن لهم لقعدوا بلا إذن غير مراعين ميثاقهم الذي واثقوك عليه بالطاعة في العسر واليسر والمنشط والمكره; قال أبو حيان : و " حتى " غاية الاستفهام. انتهى؛ وذلك لأنه وإن كان داخلا على فعل مثبت فمعناه النفي، أي: ما لك لم تحملهم على الغزو معك ليتحقق بذلك الحمل من يطيع ومن يعصي، فالحاصل أن الذي فعله صلى الله عليه وسلم حسن موافق لما أمره الله به؛ فإنه لا ينطق عن الهوى بل عن أمر الله إما بإيحاء واصل جديد، أو استناد إلى وحي سابق حاصل عتيد، والذي أشار إليه سبحانه أحسن مثل: ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك من باب "حسنات الأبرار سيئات المقربين" ومن باب الترقية من مقام عال إلى مقام أعلى تسييرا فيهم بالعدل لما انكشف أنهم ليسوا بأهل الفضل; قال الأستاذ في آخر كتاب: "العروة في تفاوت وجه الخطاب فيما بين [ ص: 483 ] ما أنزل على وفق الوصية أو أنزل على حكم الكتاب": اعلم أن الله سبحانه بعث أبو الحسن الحرالي محمدا صلى الله عليه وسلم بالرحمة لجميع العالمين وخلقه بالعفو والمعروف، كما ورد في الكتب السابقة من قوله تعالى: "وأجعل العفو والمعروف خلقه" وبذلك وصاه كما ورد عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "أوصاني ربي من غير ترجمان ولا واسطة بسبع خصال: بخشية الله في السر والعلانية، وأن أصل من قطعني، وأصفح عمن ظلمني، وأعطي من حرمني، وأن يكون نطقي ذكرا، وصمتي فكرا، ونظري عبرة".
فكان فيما أوصاه به ربه تبارك وتعالى من غير ترجمان ولا واسطة أن ولا أقطع له ممن كفر به وصد عنه، فكان هو صلى الله عليه وسلم - بحكم ما بعث به وجبل عليه ووصي به - ملتزما للعفو عمن ظلمه والوصل لمن قطعه إلا أن يعلن عليه بالإكراه على ترك ذلك والرجوع إلى حق العدل والاقتصاص والانتصاف المخالف لسعة وصيته الموافق لما نقل من أحكام سنن الأولين في مؤاخذتهم بالحق والعدل إلى جامع شرعته ليوجد فيها نحو مما تقدم من الحق والعدل وإن قل، ولتفضل شرعته بما اختص هو به صلى الله عليه وسلم من البعثة بسعة الرحمة والفضل يصل من قطعه ويصفح عمن ظلمه، إن الله يأمر بالعدل والإحسان وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم فمن القرآن [ ص: 484 ] ما أنزل على الوجه الذي بعث له وجبل عليه ووصي به نحو قوله تعالى: ادفع بالتي هي أحسن السيئة وقوله تعالى: خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين وقوله تعالى: ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر وقوله تعالى: فاصفح الصفح الجميل وقوله تعالى: فاصفح عنهم وقل سلام وأصل معناه في مضمون قوله تعالى: لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم فما كان من المنزل على هذا الوجه تعاضدت فيه الوصية والكتاب وقبله هو صلى الله عليه وسلم جبلة وحالا وعملا ولم تكن له عنه وقفة لتظافر الأمرين وتوافق الخطابين: خطاب الوصية، وخطاب الكتاب; وهذا الوجه من المنزل خاص بالقرآن العظيم الذي هو خاص به صلى الله عليه وسلم، لم يؤته أحد قبله ولقد آتيناك سبعا من المثاني والقرآن العظيم ومن القرآن ما أنزل على حكم العدل والحق المتقدم فضله في سنن الأولين وكتب المتقدمين وإمضاء عدل الله سبحانه في المؤاخذين والاكتفاء بوصل الواصل وإبعاد المستغني والإقبال على القاصد والانتقام من الشارد، وذلك خلاف ما جبل الله عليه نبيه وما وصى به حبيبه صلى الله عليه وسلم; فكان صلى الله عليه وسلم إذا أنزل عليه -أي من الكتاب- على مقتضى الحق وإمضاء [ ص: 485 ] العدل ترقب تخفيفه وترجى تيسيره حتى يعلن عليه بالإكراه في أخذه والتزام حكمه فحينئذ يقوم لله به ويظهر عذره في إمضائه فيكون له في خطاب التشديد عليه في أخذه أعظم مدح وأبلغ ثناء من الله ضد ما يتوهمه الجاهلون، فمما أنزل إنباء عن مدحه بتوقفه على إمضاء حكم العدل والحق رجاء تدارك الخلق واستعطاف الحق ما هو نحو قوله تعالى: فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفا ونحو قوله تعالى: لعلك باخع نفسك ألا يكونوا مؤمنين ونحو قوله تعالى: ولقد نعلم أنك يضيق صدرك بما يقولون ومما أنزل على وجه الإعلان عليه بما هو عليه من الرحمة وتوقفه على الأخذ بسنن الأولين حتى يكره عليه ليقوم عذره في الاقتصار على حكم الوصية وحال الجبلة ما هو نحو قوله تعالى: ومن يكفر به من الأحزاب فالنار موعده فلا تك في مرية منه إنه الحق من ربك ونحو قوله تعالى: ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين ونحو قوله تعالى: فإن كنت في شك مما أنـزلنا إليك فاسأل الذين يقرءون الكتاب من قبلك لقد جاءك الحق من ربك فلا تكونن من الممترين أي: لا تتوقف لطلب الرحمة لهم كما - يتوقف الممتري في الشيء أو الشاك فيه لما قد علم أنه لا بد لأمته [ ص: 486 ] من حظ من مضاء كلمة العدل فيهم وحق كلمة العذاب عليهم وإجراء بعضهم دون كلهم على سنة من تقدمهم من أهل الكتب الماضية في المؤاخذة بذنوبهم وإنفاذ حكم السطوة فيهم فأخذهم الله بذنوبهم فكلا أخذنا بذنبه ولم ينفعهم الرجوع عند مشاهدة الآيات آلآن وقد عصيت قبل لا تركضوا وارجعوا إلى ما أترفتم فيه ومساكنكم وذلك أن كل مطالع بالعذاب راجع -ولا بد- عن باطله حين لا ينفعه وحرام على قرية أهلكناها أنهم لا يرجعون إلا قوم يونس لما آمنوا كشفنا عنهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا لما أبطن تعالى في قلب نبيهم عليه السلام عزما على هلاكهم، أظهر تعالى رحمة عليهم، ولما ملأ نبيه صلى الله عليه وسلم رحمة لأمته: كافرهم ومؤمنهم ومنافقهم، أشار بآي من إظهار مؤاخذتهم وأعلم بكف نبيه صلى الله عليه وسلم عن تألفهم وأحسبه بمؤمنهم دون كافرهم ومنافقهم يا أيها النبي حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين وكل ذلك معلوم عنده صلى الله عليه وسلم قبل وقوعه بمضمون قوله تعالى: سنة من قد أرسلنا قبلك من رسلنا [ ص: 487 ] سنة الله التي قد خلت من قبل فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا به من قبل كذلك نسلكه في قلوب المجرمين لا يؤمنون به وقد خلت سنة الأولين "ولذلك قال صلى الله عليه وسلم حين أنزل عليه: فإن كنت في شك مما أنـزلنا إليك "أما أنا فلا أشك ولا أسأل"؛ لأنه قد علم جملة أمر الله أن منهم من يتداركه الرحمة ومن يحق عليه كلمة العذاب، ولكنه لا يزال ملتزما لتألفهم واستجلابهم حتى يكره على ترك ذلك بعلن خطاب نحو قوله تعالى: عبس وتولى أن جاءه الأعمى وما يدريك لعله يزكى أو يذكر فتنفعه الذكرى أما من استغنى فأنت له تصدى وما عليك ألا يزكى وأما من جاءك يسعى وهو يخشى فأنت عنه تلهى كلا إنها تذكرة فمن شاء ذكره ونحو قوله تعالى: ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض تريدون عرض الدنيا والله يريد الآخرة والله عزيز حكيم لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم فكلوا مما غنمتم حلالا طيبا واتقوا الله إن الله غفور رحيم فهذه الآي ونحوها يسمعها العالم بموقعها على إكراه لنبي الرحمة حتى يرجع إلى عدل نبي الملحمة من جملة أمداح القرآن له والشهادة بوفائه بعهد ووصية حتى تحقق له تسميته بنبي الرحمة ثابتا على الوصية ونبي الملحمة إمضاء في وقت [ ص: 488 ] لحكم الحق وإظهار العدل، فهو صلى الله عليه وسلم بكل القرآن ممدوح وموصوف بالخلق العظيم جامع لما تضمنته كتب الماضين وما اختصه الله به من سعة القرآن العظيم، فهذا وجه تفاوت ما بين الوصية والكتاب في محكم الخطاب; والله سميع عليم. انتهى.