ولما كان ختام جوابهم أشده، بدأ في جوابه برده مبينا لضلالاتهم مغضيا عن شناعاتهم شفقة عليهم ومحبة لنجاتهم، فقال تعالى [ ص: 272 ] حكاية عنه: قال يا قوم وشرع يكرر هذه اللفظة كل قليل تذكيرا لهم أنه منهم لتعطفهم الأرحام وتردهم القرابات عن حسد أو اتهامه إلى قبول ما يلقي إليهم من الكلام، وأشار بأداة البعد - مع قربهم - إلى مباعدتهم فيما يقتضي غاية القرب أرأيتم أي: أخبروني إن كنت على سبيل الفرض منكم والتقدير على بينة أي: برهان ساطع، وزاد ترغيبا فيه بقوله: من ربي أي الذي أوجدني وأحسن إلي بالرسالة وغيرها يشهد بصحة دعواي [شهادة] لا يتطرق إليها عند المنصف شبهة فكيف بالظن! وآتاني فضلا منه علي لا لمعنى في أزيد عليكم به، بل رحمة أي: إكراما بالرسالة بعد النبوة، وعظمها بقوله: من عنده فيها فضل عظيم النور واضح الظهور.
ولما كانت البينة من الرحمة، وحد الضمير فقال: فعميت أي: فتسبب عن تخصيصي بها أن أظلمت، ووقع ظلامها عليكم أي: فعميتم أنتم عنها لضعف عقولكم ولم يقع عليكم شيء من نورها، وذلك أن الدليل إذا كان أعمى عاد ضرره على التابع بالحيرة والضلال، وهو معنى قراءة حمزة والكسائي وحفص عن بالبناء للمفعول مشددة عاصم أنلزمكموها وقوله: وأنتم لها كارهون مع تسميته لها بينة - إشارة إلى أنها لم تعم ولا خفيت عليهم لقوة نورها وشدة ظهورها، وإنما هم معاندون في نفيهم لفضله وفضل من تبعه، والتعبير عن ذلك بالجملة الاسمية [ ص: 273 ] واسم الفاعل إشارة إلى أن أفعالهم أفعال من كراهته لها ثابتة مستحكمة، وكأنه لم يكن مأمورا بالقتال كما كان نبينا صلى الله عليه وسلم في أول الأمر، والآية ناظرة إلى قوله تعالى: أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين ويجوز أن يكون ذلك كناية عن أنهم معاندون مع قطع النظر عن الجهاد وغيره فإن الأنبياء عليهم السلام مأمورون بالمجادلة للمعاندين إلى أن يلزموهم الحجة، وهي لا تفيد إلا الإلزام في الظاهر مع الإنكار والكراهة في الباطن، والدعوة إلى سبيل الله بالحكمة للكاملين، وبالموعظة والخطابة للمنافقين الذي لا يعاندون ويحسنون الظن في الداعي، فيكون المعنى أن البينة لم تنفعكم لشكاسة واعوجاج في طباعكم، فلم يبق إلا الموعظة وهي لا تفيد [إلا] مع حسن الظن، وأما مع الكراهة فلا ينفعكم النصح، فلا فائدة في المجادلة إلا الإلزام، وهو مع الكراهة غير نافع لكم.