ولما نهى عن الإفراط وهو الزيادة تصريحا، فأفهم النهي عن التفريط، وهو النقص عن المأمور تلويحا من باب الأولى، على ذلك مؤكدا تنزيلا لمن يفرط أو يفرط منزلة المنكر فقال: إنه بما تعملون قدم الظرف لما تقدم من تأكيد الإبصار بصير ومادة "طغى" واوية ويائية بكل ترتيب تدور على مجاوزة الحد مع العلو، فالغطاء: ما ستر به الشيء عاليا عليه، ولا يكون ساترا لجميعه إلا إذا فضل عنه فتجاوز حده، وغطى الليل - إذا غشى، وكل شيء ارتفع فهو غاط. وطغى السيل - إذا جاء بماء كثير، والبحر: هاجت أمواجه، [ ص: 393 ] والطغيان: مجاوزة الحد في العصيان، والغائط والغيط: المطمئن من الأرض، لأن ما كان كذلك وكانت أرضه طيبة كانت لا تزال ريا فيعلو ما نبت فيها ويخصب فيتجاوز الحد في ذلك، ومنه الغوطة - لموضع بالشام كثير الماء والشجر.
ولما نهى عن ، أتبعه النهي عن التفريط بالتقصير فيه بسفول الهمم [على وجه عام، وكان الحب في الله والبغض منه الإفراط في الدين ، إشارة إلى ضده الذي هو أوثق عرى الشيطان] فقال: أوثق عرى الإيمان ولا تركنوا أي: شيئا من ركون، وقال: إلى الذين ظلموا أي: وجد منهم الظلم ولم يقل الظالمين، أي بالميل إليهم بأن تثاقل أنفسكم نحوهم للميل إلى أعمالهم ولو بالرضى به والتشبه بهم والتزيي بزيهم، وحاصل الآيتين: لا تظلموا بأنفسكم ولا تستحسنوا أفعال الظالمين، وفسر الركون بالميل اليسير، وهو حسن من جهة المعنى لكني لم أره لغيره من أهل اللغة، وقال الزمخشري - وهو أقرب-: الركون: السكون إلى الشيء بالمحبة والانصباب إليه، ونقيضه النفور عنه. وهو على التفسير الثاني في الرماني تطغوا من عطف الخاص على العام، والآية ملتفتة إلى قوله تعالى: فلعلك تارك بعض ما يوحى إليك [ ص: 394 ] فتمسكم النار أي: فتسبب عن ركونكم إليهم مسها لكم فلا تقدروا على التخلص منها بنوع حيلة من أنفسكم; [و] من إجلال النبي صلى الله عليه وسلم إفراده بالخطاب في الأمر بأفعال الخير، والإتيان بضمير الجمع في النهي عن أفعال الشر - نبه على ذلك الإمام أبو حيان.
ولما كان كل موجود سوى الله في قهره وتحت أمره، قال تعالى: وما لكم ولما كان دون رتبته تعالى من الرتب والذوات ما لا يحصيه غيره سبحانه، أدخل الجار تبعيضا فقال: من دون الله أي الملك الأعظم، وأغرق في النفي فقال: من أولياء أي: يخلصونكم من عذابه لما تقرر أن دون من الأدون وهو الأقرب إلى جهة السفل; والولي: المختص بأن من شأنه تولي \ المعونة عند الحاجة، وأشار إلى أن نصر من لا ناصر له من الله محال بأداة البعد وبناء للمفعول فقال: ثم لا تنصرون أي: ثم إذا فاتكم هذا وذاك فما أبعدكم من النصرة!