ولما بين أنه يقص عليه [من] أنباء الرسل ما يثبت به فؤاده، قال مثبتا ومعللا بأنه الكتاب بعلة أخرى مشاهدة هي أخص من الأولى: نحن نقص عليك وعظم هذه القصة بمظهر العظمة وأكد ذلك بقوله تعالى: أحسن القصص أي الاقتصاص [ ص: 7 ] أو المقصوص بأن نتبع بعض الحديث كما نعلمه بعضا فنبينه أحسن البيان - لأنه من قص الأثر - تثبيتا لفؤادك وتصديقا لنبوتك وتأييدا على أحسن ترتيب وأحكم نظام وأكمل أسلوب وأوفى تحرير وأبدع طريقة مع ما نفصلها به من جواهر الحكم وبدائع المعاني من الأصول والفروع، وهي قصة يوسف عليه السلام قصة طويلة هي في التوراة في نيف وعشرين ورقة لا يضبطها إلا حذاق أحبارهم، من تأمل اقتصاصها فيها أو في غيرها من تواريخهم ذاق معنى قوله تعالى أحسن القصص حتى لقد أسلم قوم من اليهود لما رأوا من حسن اقتصاصها، روى في أواخر الدلائل بسنده عن البيهقي رضي الله تعالى عنهما " ابن عباس أن حبرا من اليهود دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم وكان قارئا للتوراة فوافقه وهو يقرأ سورة يوسف عليه السلام كما أنزلت على موسى عليه السلام في التوراة فقال [له] الحبر: يا محمد ! من علمكها؟ قال: الله علمنيها، فرجع إلى اليهود فقال [لهم]: أتعلمون والله أن محمدا ليقرأ القرآن كما أنزل في التوراة! فانطلق بنفر منهم حتى دخلوا عليه فعرفوه بالصفة ونظروا إلى خاتم النبوة بين كتفيه، فجعلوا يستمعون إلى قراءته لسورة يوسف ، فتعجبوا منه وقالوا: يا محمد ! من علمكها؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : علمنيها الله، فأسلم [ ص: 8 ] القوم عند ذلك " .
وقد ضمنها سبحانه من النكت والعبر والحكم أمرا عظيما، وذكر فيها وحلمه عنهم وإغضاءه عند لقائهم عن تبكيتهم وكرمه في العفو، والأنبياء والصالحين والملائكة والشياطين والإنس والجن والأنعام والطير وسير الملوك والمماليك والتجار والعلماء والجهال والرجال والنساء ومكرهن والتوحيد والنبوة والإعجاز والتعبير والسياسة والمعاشرة وتدبير المعاش وجميع الفوائد التي تصلح للدين والدنيا، وذكر الحبيب والمحبوب، ولم يدخل فيها شيئا من غيرها دون سائر القصص، وكان عقابها إلى خير وسلامة واجتماع شمل وعفو من الله وتجاوز عن الكل حسن مجاورة يوسف عليه الصلاة والسلام لإخوته وصبره على أذاهم بما أوحينا أي بسبب إيحائنا إليك
ولما كان إنزال القرآن مجمع الخيرات، عين المراد بالإشارة واسم العلم فقال: هذا القرآن الذي قالوا فيه: إنه مفترى، فنحن نتابع فيه القصص بعد قصة بعد قصة والحكم حكمة في أثر حكمة حتى لا يشك شاك ولا يمتري ممتر في أنه من عندنا وبإذننا ويكون أمره في البعد من اللبس أظهر من الشمس.
ولما كانوا مع معرفتهم به صلى الله عليه وسلم عارفين بأنه كان [ ص: 9 ] مباعدا للعلم والعلماء، وكان فعلهم في التكذيب فعل من ينكر ذلك، قال: وإن أي وإن الشأن والحديث كنت ولما كان كونه لم يستغرق الزمان الماضي، أثبت الجار فقال: من قبله أي هذا الكتاب أو إيحائنا إليك به لمن الغافلين أي عن هذه القصة وغيرها، مؤكدا له بأنواع التأكيد، وهو ناظر إلى قوله آخرها وما كنت لديهم إذ أجمعوا أمرهم وهم يمكرون بعد التفاته عن كثب إلى آخر التي قبلها وما ربك بغافل عما تعملون والحسن : معنى يتقبله العقل ويطرق إلى طلب المتصف به أنواع الحيل، ومادة، غفل، بكل ترتيب تدور على الستر والحجب، من الغلاف الذي يوضع فيه الشيء فلا ينظر منه شيئا ولا ينظره شيء ما دام فيه، ومنه الغفلة - للجلدة التي على الكمرة، والغفل - بالضم: ما لا علاقة [له] من الأرض، ودابة غفل، لا سمة لها، لأن عدم العلامة مؤد إلى الجهل بها فكأنها في غلاف لا ينظر منه، ومنه رجل غفل: لا حسب عنده، لأن ذلك أقرب إلى جهله، والتغفل: الختل، أي أخذ الشيء من غير أن يشعر، فقد ظهر أن مقصود السورة وصف الكتاب بعد الحكمة والتفصيل بالإبانة عن جميع المقاصد المنزل لها; وقال الإمام أبو جعفر بن الزبير : هذه السورة من جملة ما قص [ ص: 10 ] عليه صلى الله عليه وسلم من أنباء الرسل وأخبار من تقدمه مما فيه التثبيت الممنوح في قوله سبحانه وتعالى وكلا نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك ومما وقعت الإحالة عليه في سورة الأنعام - كما تقدم - وإنما أفردت على حدتها ولم تنسق على قصص الرسل مع أنهم في سورة واحدة لمفارقة مضمونها تلك القصص، ألا ترى أن تلك قصص إرسال من تقدم ذكرهم عليهم الصلاة والسلام وكيفية تلقي قومهم لهم وإهلاك مكذبيهم، أما هذه القصة فحاصلها فرج بعد شدة وتعريف بحسن عاقبة الصبر، فإنه تعالى امتحن يعقوب عليه الصلاة والسلام بفقد ابنيه وبصره وشتات بنيه، وامتحن يوسف عليه الصلاة والسلام بالجب والبيع وامرأة العزيز وفقد الأب والإخوة والسجن، ثم امتحن جميعهم بشمول الضر وقلة ذات اليد مسنا وأهلنا الضر وجئنا ببضاعة مزجاة فأوف لنا الكيل وتصدق علينا ثم تداركهم الله بالفهم وجمع شملهم ورد بصر أبيهم وائتلاف قلوبهم ورفع ما نزع به الشيطان وخلاص يوسف عليه الصلاة والسلام من كيد كاده واكتنافه بالعصمة وبراءته عند الملك والنسوه، وكل ذلك مما أعقبه جميل الصبر وجلاله اليقين في حسن تلقي الأقدار بالتفويض والتسليم على توالي الامتحان وطول المدة، ثم انجر في أثناء هذه القصة الجليلة إنابة [ ص: 11 ] امرأة العزيز ورجوعها إلى الحق وشهادتها ليوسف عليه الصلاة والسلام بما منحه الله من النزاهة عن كل ما يشين، ثم استخلاص العزيز إياه - إلى ما انجر في هذه القصة الجليلة من العجائب والعبر لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب فقد انفردت هذه القصة بنفسها ولم تناسب ما ذكر من قصص نوح وهود وصالح ولوط وشعيب وموسى عليهم الصلاة والسلام وما جرى في أممهم، فلهذا فصلت عنهم، وقد أشار في سورة برأسها إلى ليتنبه المؤمنون على ما في طي ذلك، وقد صرح لهم مما أجملته هذه السورة من الإشارة في قوله تعالى عاقبة من صبر ورضى وسلم وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض - إلى قوله " آمنا " وكانت قصة يوسف عليه الصلاة والسلام بجملتها أشبه شيء بحال المؤمنين في مكابدتهم في أول الأمر وهجرتهم وتشققهم مع قومهم وقلة ذات أيديهم إلى أن جمع الله شملهم واذكروا نعمت الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا وأورثهم [الله] الأرض وأيدهم ونصرهم، ذلك بجليل إيمانهم وعظيم صبرهم، فهذا ما أوجب تجرد هذه القصة عن تلك القصص - والله أعلم، وأما تأخر ذكرها عنها فمناسب لحالها ولأنها إخبار بعاقبة من آمن واتعظ ووقف عند ما حد له، فلم يضره [ ص: 12 ] ما كان، ولم تذكر إثر قصص الأعراف لما بقي من استيفاء تلك القصص الحاصل ذلك في سورة هود; ثم إن ذكر أحوال المؤمنين مع من كان معهم من المنافقين وصبرهم عليهم مما يجب أن يتقدم ويعقب بهذه القصة من حيث عاقبة [الصبر] والحض عليه - كما مر، فأخرت إلى عقب سورة هود عليه الصلاة والسلام لمجموع هذا - والله تعالى أعلم; ثم ناسبت سورة يوسف عليه الصلاة والسلام أيضا أن تذكر إثر قوله تعالى إن الحسنات يذهبن السيئات ذلك ذكرى للذاكرين وقوله واصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين وقوله ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة -الآية، وقوله وقل للذين لا يؤمنون اعملوا على مكانتكم إنا عاملون وانتظروا إنا منتظرون فتدبر ذلك، إما نسبتها للأولى فإن ندم إخوة يوسف عليه الصلاة والسلام واعترافهم بخطاء فعلهم وفضل يوسف عليه الصلاة والسلام عليهم
لقد آثرك الله علينا وإن كنا لخاطئين وعفوه عنهم لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وندم امرأة العزيز وقولها الآن حصحص الحق - الآية، كل هذا من باب إذهاب الحسنة السيئة، وكأن ذلك مثال [ ص: 13 ] لما عرف المؤمنون من إذهاب الحسنة السيئة; وأما نسبة السورة لقوله تعالى واصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين فإن هذا أمر منه سبحانه لنبيه عليه الصلاة والسلام بالصبر على قومه، فأتبع بحال يعقوب ويوسف عليهما الصلاة والسلام وما كان من أمرهما وصبرهما مع طول المدة وتوالى امتحان يوسف عليه الصلاة والسلام بالجب ومفارقة الأب والسجن حتى خلصه الله أجمل خلاص بعد طول تلك المشقات، ألا ترى قول نبينا وقد ذكر يوسف عليه الصلاة والسلام فشهد له بجلالة الحال وعظيم الصبر فقال " يوسف لأجبت الداعي " فتأمل عذره له عليهما الصلاة والسلام وشهادته بعظيم قدر ولو لبثت في السجن ما لبث أخي يوسف عليهما الصلاة والسلام وكلا نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك
لما قيل له واصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين أتبع بحال يعقوب ويوسف عليهما الصلاة والسلام من المحسنين ووهبنا له إسحاق ويعقوب - إلى قوله وكذلك نجزي المحسنين وقد شملت الآية ذكر يعقوب ويوسف عليهما الصلاة والسلام، ونبينا عليه أفضل الصلاة والسلام قد أمر بالاقتداء في الصبر بهم، وقيل له فاصبر [ ص: 14 ] كما صبر أولو العزم من الرسل ويوسف عليه الصلاة والسلام من أولي العزم; ثم إن حال يعقوب ويوسف عليهما الصلاة والسلام - في صبرهما ورؤية حسن عاقبة الصبر في الدنيا مع ما أعد الله لهما من عظيم الثواب - أنسب شيء لحال نبينا عليه الصلاة والسلام في مكابدة قريش ومفارقة وطنه، ثم تعقب ذلك بظفره بعدوه وإعزاز دينه وإظهار كلمته ورجوعه إلى بلده على حالة قرت بها عيون المؤمنين وما فتح الله عليه وعلى أصحابه - فتأمل ذلك، ويوضح ما ذكرنا ختم السورة بقوله تعالى حتى إذا استيئس الرسل وظنوا أنهم قد كذبوا جاءهم نصرنا الآية فحاصل هذا كله الأمر بالصبر وحسن عواقب أولياء الله فيه; وأما النسبة لقوله: ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين فلا أنسب لهذا ولا أعجب من حال إخوة فضلاء لأب واحد من أنبياء الله تعالى وصالحي عباده جرى بينهم من التشتت ما جعله الله عبرة لأولي الألباب; وأما النسبة لآية التهديد فبينة، وكأن الكلام في قوة " اعملوا على مكانتكم - وانتظروا " [ ص: 15 ] فلن نصبر عليكم مدة صبر يعقوب ويوسف عليهما الصلاة والسلام، فقد وضح بفضل الله وجه ورود هذه السورة عقب سورة هود - والله أعلم. انتهى.