فحينئذ فتش أوعيتهم فبدأ أي فتسبب عن ذلك أنه بدأ المؤذن أو غيره ممن أمر بذلك بأوعيتهم
ولما لم يكن - بين فتح أوعيتهم وفتح وعاء أخيه - فاصل يعد فاصلا، فكانت بداءته بأوعيتهم مستغرقة لما بينهما من الزمان، لم يأت بجار، فقال قبل وعاء أخيه أي أخي يوسف عليه الصلاة والسلام شقيقه، إبعادا عن التهمة "ثم" [أي بعد تفتيش أوعيتهم والتأني في ذلك] استخرجها أي أوجد إخراج السقاية التي تقدم أنه جعلها في وعاء أخيه من وعاء أخيه
ولما كان هذا كيدا عظيما في أخذ أخيه بحكمهم، مع ما توثق منهم أبوهم، عظمه تعالى بالإشارة إليه بأداة البعد والإسناد إليه [فقال]: "كذلك" أي مثل هذا الكيد العظيم كدنا ليوسف خاصة بأن علمناه إياه جزاء لهم على كيدهم بيوسف عليه الصلاة والسلام، ولذلك صنعنا جميع الصنائع التي أعلت يوسف عليه الصلاة والسلام وألجأت [ ص: 173 ] إخوته الذين كادوه بما ظنوا أنه أبطل أمره إلى المجيء إليه إلى أن كان آخرها حكمهم على أنفسهم بما حكموا، ثم علل ذلك بقوله: ما كان أو هو استئناف تفسير للكيد، و[أكد] النفي باللام فقال: ليأخذ أخاه
ولما كان الأخذ على جهات مختلفة، قيده بقوله: في دين الملك يعني ملك مصر ، على حالة من الحالات، لأن جزاء السارق عندهم غير هذا إلا أن يشاء الله أي الذي له الأمر كله، ذلك بسبب يقيمه كهذا السبب الذي هو حكم السارق وأهله على أنفسهم، فلا يكون حينئذ من الملك إلا تخليتهم وما حكموا به على نفوسهم.
ومادة "سرق" بتراكيبها الأربعة: سرق، وسقر، وقسر، وقرس - تدور على الغلبة المحرقة والموجعة، وتارة تكون بحر، وتارة ببرد، وتارة بغير ذلك، وتلازمها القوة والضعف والكثرة والقلة والمخادعة، فيأتي الخفاء والليل، فمن مطلق الغلبة: القسر، وهو الغلبة والقهر، وقال ابن دريد: القسر: الأخذ بالغلبة والاضطهاد، والقسورة: الأسد، والعزيز كالقسور، والرماة من الصيادين، واحده قسور، [ ص: 174 ] ونبات سهلي - كأنه يكثر فيه الصيد، فتنتابه القساورة، وقسور النبت: كثر، وركز الناس، أي صوتهم الخفي وحسهم - لأن الصيادين يتخافتون; والسقر لغة في الصقر - لطير يصيد; وقسر: جبل السراة - كأنه موضع الصيد والقسر والغلبة، والقيسري: الكثير - لأنه ملزوم للغلبة، وضرب من الجعلان - كأنه سمي لمطلق الكثرة ولأذاه بما يعانيه من النجاسات، والقيسري - أيضا من الإبل: العظيم أو الصلب أو الضخم الشديد; وجمل قراسية - بالضم وتخفيف الياء: ضخم، والقرس - بالكسر: صغار البعوض; والقسورة أيضا من الغلمان: الشاب القوي، والرامي - لأنه أهل لأن يغلب، ولقسور أيضا: الصياد مطلقا; ويلزمه المخادعة والاستخفاء، ومنه القسورة: نصف الليل أو أوله أو معظمه - لأنه محل الاستخفاء والمقاهرة; ومنه السرق، وهو الأخذ في خفية، وعبارة القزاز: في ختل وغفلة، وسرق - كفرح: خفي، والسوارق: الزوائد في فراش القفل - لغرابتها وخفاء [ ص: 175 ] أمرها، أو لسلبها السرقة بمنعها السارق من فتح القفل، والمسترق: المستمع مختفيا، وانسرق عنهم: خنس ليذهب، ويلزم المخادعة والاختفاء نوع ضعف، ومنه: سرقت مفاصله - كفرح: ضعفت، والمسترق: الناقص الضعيف الخلق; وانسرق: فتر وضعف - إما منه وإما من السلب، لأن من فتر أو ضعف يكف عن السرقة والأذى; وقسور الرجل: أسن، وكان منه القارس والقريس أي القديم، ومسترق العنق: قصيرها - كأنه سرق منها شيء، وهو يسارق النظر إليه، أي يطلب غفلته لينظر إليه، وتسرق: [سرق] شيئا فشيئا، وسرق - كسكر - كان اسمه الحباب فابتاع من بدوي راحلتين، ثم أجلسه على باب دار ليخرج إليه بثمنهما فخرج من الباب الآخر فهرب بهما، فسماه النبي صلى الله عليه وسلم سرقا، وكان لا يحب أن يسمى بغيره، والسرق - محركا: أجود الحرير [أو الحرير] الأبيض، أو الحرير عامة، فارسي معرب أصله سره، قال القزاز : ومعناه: جيد، لأنه [ ص: 176 ] أهل لأن يقصد بالسرقة لخفة محمله وكثرة تمنه، والسرقين معرب سركين يمكن أن يكون من الضعف، ولعل المعرب يكون خارجا عن أصل المادة، لأنه لا أصل له في العربية; ومن الأذى بالحر السفر: حر الشمس وأذاه، يقال: سقرته الشمس - بالسين والصاد - إذا آلمت دماغه، ومنه اشتقاق سقر، وهو اسم إحدى طبقات النار، والسقر: القيادة على الحرم، والسقر: ما يسيل من الرطب - من التسمية باسم السبب، لأن الحر سببه، والقوسرة: القوصرة - ويخففان - لأنه يوضع فيه التمر الذي قد يكون منه السقر، والساقر: الكافر واللعان لغير المستحقين - لكثرة الأذى، أو لاستحقاق الكون في سقر، والساقور: الحر والحديدة يكوى بها الحمار; ومن الأذى بالبرد: القرس - وهو البرد الشديد والبارد، والقرس - ويحرك: أبرد الصقيع وأكثفه، والقرس - بالتحريك: الجامد، وأقرس العود جمد ماءه، ومنه القريس - لسمك طبخ وترك حتى جمد، وقرس الماء: جمد، والبرد: اشتد كقرس كفرح، وآل قرايس ويقال: نبات قراس - [ ص: 177 ] كسحاب: أجبل باردة أو هضاب بناحية السراة، وقرسنا الماء: بردناه.
إذا تقرر ذلك فتصحيح قول المؤذن "إنكم لسارقون" إن نظر إلى الغلبة في خفاء فلا شك أنهم متصفون بذلك لأخذهم يوسف من أبيه عليهما السلام على هذه الحالة، وإن نظر إلى مطلق الأخذ في [خفاء] فيكون إطلاق ذلك عليهم مجازا، لأن معهم - في حال ندائه لهم وهم سائرون - شيئا ليس هو لهم هم ذاهبون به في خفاء، أي أنتم في هذه الحالة فاعلون فعل السارق، ويقوي إرادة الأول قوله تعالى لتنبئنهم بأمرهم هذا وهم لا يشعرون وقوله تعالى: من وجدنا متاعنا عنده كما سيأتي.
ولما كان يوسف عليه الصلاة والسلام إنما تمكن من ذلك بعلو درجته وتمكنه ورفعته، بعد ما كان فيه عندهم من الصغار، كان ذلك محل عجب، فقال تعالى - التفاتا إلى مقام التكلم تقوية للكلام بمقام الغيبة والتكلم، وزاده إشعارا بعظمة، هذا الفعل بصوغه في مظهر العظمة منبها لمن قد يغفل: نرفع أي لنا من العظمة، وكان الأصل: درجاته، ولكنه عمم لأنه أدل على العظمة، فكان أليق بمظهرها [ ص: 178 ] فقال منبها على أنه كان حصل ليوسف عليه الصلاة والسلام من الهضم ما ظن كما ظن أنه لا يرتفع بعده: درجات من نشاء أي بالعلم.
ولما كان سبب الرفعة هو الأعلمية بالأسباب، وذلك أن الخلق لو اجتهدوا في خفض أحد فنصبوا له كل سبب علموه وقدروا عليه، وأراد الله ضد ذلك، لقيض بعلمه سببا واحدا إن شاء فأبطل جميع تلك الأسباب وقضى برفعته، نبه تعالى على ذلك بقوله: وفوق كل ذي علم أي من الخلق "عليم" عظيم العلم، لا تكتنه عظمة علمه العقول، ولا تتخيلها الفهوم، فهو يسبب من الأسباب ما تطيح له أسباب العلماء وتحير له ألباب العقلاء البصراء، وهو الله تعالى - كما نقله عن الرماني رضي الله عنهما ابن عباس والحسن ، فالتنوين للتعظيم. وسعيد بن جبير