ولما فرق سبحانه في تلك بين الدين الحق والمذهب الباطل ، وبين ذلك غاية البيان ، وفصل الرحمن من عباد الشيطان ، وأخبر أنه ، وختم بشديد الإنذار [ ص: 3 ] لأهل الإدبار ، بعد أن قال : عم برسالته صلى الله عليه وسلم جميع الخلائق فقد كذبتم وكان حين نزولها لم يسلم منهم إلا القليل ، وكان ذلك ربما أوهم قرب إهلاكهم وإنزال البطش بهم ، كما كان في آخر سورة مريم ، وأشارت الأحرف المقطعة إلى مثل ذلك ، فأوجب الأسف على فوات ما كان يرجى من رحمتهم بالإيمان ، والحفظ عن نوازل الحدثان ، وكان ذلك أيضا ربما أوجب أن يظن ظان ، أن عدم إسلامهم لنقص في البيان ، أزال ذلك سبحانه أول هذه فقال : تلك أي : الآيات العالية المرام ، الحائزة أعلى مراتب التمام ، المؤلفة من هذه الحروف التي تتناطقون بها وكلمات لسانكم ، آيات الكتاب أي : الجامع لكل فرقان ، المبين أي : الواضح في نفسه أنه معجز ، وأنه من عند الله ، وأن فيه كل معنى جليل ، الفارق لكل مجتمع ملتبس بغاية البيان ، فصح أنه كما ذكر في التي قبلها ، فإن الإبانة هي الفصل والفرق ، فصار الإخبار بأنه فرقان مكتنفا الإنذار أول السورة التي قبلها وآخرها – والله الموفق.
وقال الإمام أبو جعفر بن الزبير : لما عرفت سورة الفرقان بشنيع مرتكب الكفرة المعاندين ، وختمت بما ذكر من الوعيد ، كان ذلك مظنة لإشفاقه عليه الصلاة والسلام وتأسفه على فوات إيمانهم ، لما جبل عليه من الرحمة والإشفاق ، فافتتحت السورة الأخرى بتسليته عليه الصلاة [ ص: 4 ] والسلام ، وأنه سبحانه لو شاء لأنزل عليهم آية تبهرهم وتذل جبابرتهم فقال سبحانه : لعلك باخع نفسك - الآيتين ، وقد تكرر هذا المعنى عند إرادة تسليته عليه الصلاة والسلام كقوله تعالى : ولو شاء الله لجمعهم على الهدى ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا ولو شاء الله ما فعلوه ثم أعقب سبحانه بالتنبيه والتذكير أولم يروا إلى الأرض كم أنبتنا فيها من كل زوج كريم وإذ نادى ربك موسى وقلما تجد في الكتاب العزيز ورود تسليته عليه السلام إلا معقبة بقصص موسى عليه السلام وما كابد من بني إسرائيل وفرعون ، وفي كل قصة منها إحراز ما لم تحرزه الأخرى من الفوائد والمعاني والأخبار حتى لا تجد قصة تتكرر وإن ظن ذلك من لم يمعن النظر ، فما من قصة من القصص المتكررة في الظاهر إلا ولو سقطت أو قدر إزالتها لنقص من الفائدة ما لا يحصل من غيرها ، وسيوضح هذا في التفسير بحول الله; ثم أتبع جل وتعالى قصة موسى بقصص غيره من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام مع أممهم على الطريقة المذكورة ، وتأنيسا له عليه الصلاة والسلام حتى لا يهلك نفسه أسفا على فوت إيمان قومه; ثم أتبع سبحانه ذلك بذكر الكتاب [ ص: 5 ] وعظيم النعمة به فقال : وإنه لتنـزيل رب العالمين نـزل به الروح الأمين على قلبك لتكون فيا لها كرامة تقصر الألسن عن شكرها ، وتعجز العقول عن تقديرها ، ثم أخبر تعالى أنه بلسان عربي مبين ثم وشائع ذكره على ألسنة الرسل والأنبياء فقال : أخبر سبحانه بعلي أمر هذا الكتاب وإنه لفي زبر الأولين وأخبر أن علم بني إسرائيل من أعظم آية وأوضح برهان وبينة ، وأن تأمل ذلك كاف ، واعتباره شاف ، فقال : أولم يكن لهم آية أن يعلمه علماء بني إسرائيل وأشباهه ، ثم وبخ تعالى متوقفي كعبد الله بن سلام العرب فقال : ولو نـزلناه على بعض الأعجمين - الآية ، ثم أتبع ذلك بما يتعظ به المؤمن الخائف من أن الكتاب -مع أنه هدى ونور- قد يكون محنة في حق طائفة كما قال تعالى : يضل به كثيرا ويهدي به كثيرا وأما الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجسا إلى رجسهم فقال تعالى في هذا المعنى : كذلك سلكناه في قلوب المجرمين لا يؤمنون به حتى يروا العذاب الأليم الآيات ، ثم عاد الكلام إلى تنزيه الكتاب وإجلاله عن أن تتسور الشياطين على شيء منه أو تصل إليه فقال سبحانه : وما تنـزلت به الشياطين وما ينبغي لهم وما يستطيعون أي : ليسوا أهلا له ولا يقدرون على استراق سمعه ، بل هم معزولون عن السمع ، مرجومون بالشهب ، ثم وصى تعالى [ ص: 6 ] نبيه صلى الله عليه وسلم والمراد : المؤمنون- فقال : فلا تدع مع الله إلها آخر فتكون من المعذبين ثم أمره بالإنذار ووصاه بالصبر فقال : وأنذر عشيرتك الأقربين واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين ثم أعلم تعالى بموقع ما توهموه ، وأهلية ما تخيلوه ، فقال : هل أنبئكم على من تنـزل الشياطين تنـزل على كل أفاك أثيم ثم وصفهم ، وكل هذا تنزيه لنبيه صلى الله عليه وسلم عما تقولوه ، ثم هددهم وتوعدهم فقال : وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون -انتهى.