ولما بين بهذا أن أتبعه ما يزهد في طلب رزق البدن، ويرغب في رزق الروح فقال على سبيل الاستئناف جوابا لمن يسأل: هل يكون الرزق بشدة السعي أو لا، وبدأ برزق الروح لشرفه: الرزق ليس إلا في يده، من كان أي من شريف أو دنيء يريد ولما كان مدار مقصد السورة على الدين، وكان الدين معاملة بين العبد وربه يقصد به ما يقصد بالحرث من حصول الفائدة، وكان الحرث من أجل أسباب المكاسب، وكانت الجنة قيعانا غراسها ذكر الله، عبر عن مطلق الكسب بالحرث فقال: حرث الآخرة أي أعمالها التي تستنمي بها الفوائد. ولما كانت أسباب الحروث وثمراتها لا يقدر على تعطيلها وإنجاحها إلا الله، وكان الآدمي يظن لنفسه في ذلك قدرة، نبه سبحانه بالالتفات إلى أسلوب العظمة أن أمره سبحانه في ذلك لا يستطاع دفاعه ولا ممانعته ونزاعه: نـزد له أي بعظمتنا التي لا يقدر أحد على تحويلها في حرثه بأن يعينه على الأعمال الصالحة بإنارة القلب وتصفية الحال وتهدئة السر ونفوذ البصر فيما يضر وينفع ويضاعف له ثوابها من العشر لكل حسنة إلى ما لا نهاية له ويغطيه من الدنيا التي أعرض عنها ما قدر له إعانة له على ما أقبل عليه من [ ص: 288 ] الآخرة، وطوى مع أنه معلوم من آيات أخر ذكر الدنيا في هذا الشق تنبيها على أنها أحقر من أن تذكر ومن كان أي من قوي أو ضعيف يريد حرث الدنيا أي أرزاقها التي تطلب بالكد والسعي ويستنمي به مكتفيا به مؤثرا له على الآخرة نؤته منها ما قسمناه له، ولو تهاون به ولم يطلبه لأتاه، ولا ينال كل ما يتمناه ولو جهد كل الجهد، وأما الآخرة فكل ما نواه طالبها من أعمالها حصل له وإن لم يعمله وما أي والحال أن طالب الدنيا ما له في الآخرة من نصيب أصلا، روى رضي الله أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: أبي بن كعب
رواه "بشر هذه الأمة بالسنا والرفعة والنصرة والتمكين في الأرض فمن عمل منهم عمل الآخرة للدنيا لم يكن له في الآخرة من نصيب" أحمد في صحيحه وابن حبان - وقال: صحيح الإسناد - والحاكم ، وذلك لأن والبيهقي وهذا تهاون بها فلم ينوها وهي أشرف من أن تقبل على من أعرض عنها [ ص: 289 ] وتبعد عمن أقبل عليها حتى تهلكه في مهاويها، والآخرة تقبل على من أقبل عليها أضعاف إقباله، وتنادي من أدبر عنها لينتهي عن غيه وضلاله، قال الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى، الرازي في اللوامع: أهل الإرادة على أصناف: مريد للدنيا ومريد للآخرة ومريد للحق جل وعلا، وعلامة إرادة الدنيا أن يرضى في زيادة دنياه بنقص دينه والإعراض عن فقراء المسلمين وأن تكون حاجاته في الدعاء مقصورة على الدنيا، وعلامة إرادة الآخرة بعكس ذلك، وأما علامة إرادة الله سبحانه وتعالى كما قال " يريدون وجهه " طرح الكونين والحرية عن الخلق والخلاص من يد النفس - انتهى، وحاصله أن يستغرق أوقاته في التوفية بحقوق الحق وحقوق الخلق وتزكية النفس لا طمعا في جنة ولا خوفا من نار، بل امتثالا لأمر الملك الأعلى الذي لا إله غيره لأنه أهل لذلك مع اعترافه لأنه لن يقدر الله حق قدره.