ولما كان كل من الإيمان والتوكل أمرا باطنا فكان لا بد من [ ص: 329 ] دلائله من ظواهر الأعمال، وكانت تخليات من الرذائل وتحليات بالفضائل وكانت التخليات لكونها درء للمفاسد مقدمة على التحليات التي هي جلب للمصالح قال عاطفا على " الذين " : والذين يجتنبون أي يكلفون أنفسهم أن يجابوا كبائر الإثم أي جنس الفعال الكبار التي لا توجد إلا ضمن أفرادها ويحصل بها دنس للنفس، فيوجب عقابا لها مع الجسم، وعطف على كبائر قوله: والفواحش وهي ما أنكره الشرع والعقل والطبع التي هي آيات الله الثلاث التي نصبها حجة على عباده وله الحجة البالغة فاستعظم الناس أمرها ولو أنها صغائر لدلالتها على الإخلال بالمروءة كسرقة لقمة والإقرار على المعصية من شيخ جليل القدر لمن لا يخشاه ولا يرجوه، وقرأ حمزة : كبير، وهو للجنس، فهو بمعنى قراءة الجمع أو هي أبلغ لشمولها المفرد. ولما ذكر ما قد تقود إليه المطامع دون حمل الغضب الصارع قال منبها على عظمته معبرا بأداة [ ص: 330 ] التحقق دلالة على أنه لا به منه توطينا للنفس عليه معلقا بفعل الغفر: والكسائي وإذا وأكد بقوله: ما وقدم الغضب إشارة إلى الاهتمام بإطفاء جمره وتبريد حره فقال: غضبوا أي غضبا هو على حقيقته من أمر مغضب في العادة، وبين بضمير الفصل أن بواطنهم في غفرهم كظواهرهم فقال: هم يغفرون أي الإحصاء والإخفاء بأنهم فسجاياهم تقتضي الصفح دون الانتقام ما لم يكن من الظالم بغي لأنه لا يؤاخذ على مجرد الغضب إلا متكبر، والكبر لا يصلح لغير الإله وذلك لأنه لا يغيب أحلامهم عند اشتداد الأمر ما يغيب أحلام غيرهم من طيش الجهل وسفاهة الرأي، فدل ذلك على أن الغفر دون غضب لا يعد بالنسبة إلى الغفر معه، وفي الصحيح كلما تجدد لهم غضب جددوا غفرا أي محوا للذنب عينا وأثرا مع القدرة على الانتقام وروى أنه صلى الله عليه وسلم ما انتقم لنفسه قط إلا أن تنتهك حرمات الله، عن ابن أبي حاتم إبراهيم قال: كان المؤمنون يكرهون أن يستذلوا وكانوا [ ص: 331 ] إذا قدروا عفوا.