لما أقام سبحانه الأدلة في الحواميم حتى صارت كالشمس، لا يزيغ عنها إلا هالك، وختم بأنه يهلك بعد هذه الأدلة القوم الفاسقون، افتتح هذه بالتعريف بهم فقال سبحانه وتعالى: الذين كفروا أي: ستروا أنوار الأدلة فضلوا على علم وصدوا أي امتنعوا بأنفسهم ومنعوا غيرهم لعراقتهم في الكفر عن سبيل الله أي: الطريق الرحب المستقيم الذي شرعه الملك الأعظم أضل أي: أبطل إبطالا عظيما [يزيل العين والأثر] أعمالهم التي هي أرواحهم المعنوية وهي كل شيء يقصدون به نفع أنفسهم من جلب نفع أو دفع ضر بعد أن وفر سيئاتهم وأفسد بالهم، ومن جملة أعمالهم ما يكيدونكم به؛ لأنها إذا ضلت عما قصدوا بها بجعله سبحانه لها ضالة ضائعة هلكت من جهة أنها ذهبت في المهالك ومن جهة أنها ذهبت في غير الجهة التي قصدت لها فبطلت منفعتها المقصودة منها فصارت هي باطلة فأذهبوا أنتم أرواحهم الحسية بأن تبطلوا صورهم وأشباحهم بأن تقطعوا أوصالهم [ ص: 196 ] وأنتم في غاية الاجتراء عليهم؛ فإن ربهم الذي أوجدهم قد أبطلهم وأذن لكم في إبطالهم، فإنه قد علم أن لا صلاح لهم والمؤذي طبعا يقتل شرعا، فمن قدرتم على قتله فهو محكوم بكفره، محتوم بخيبته وخسره.
وقال الإمام أبو جعفر بن الزبير : لما انبنت سورة الأحقاف على ما ذكر من مآل من كذب وافترى وكفر وفجر، وافتتحت السورة بإعراضهم، ختمت بما [قد] تكرر من تقريعهم وتوبيخهم، فقال تعالى: أولم يروا أن الله الذي خلق السماوات والأرض ولم يعي بخلقهن بقادر على أن يحيي الموتى أي: لو اعتبروا بالبداءة لتيسر عليهم أمر العودة، ثم ذكر عرضهم على النار إلى قوله: فهل يهلك إلا القوم الفاسقون فلما ختم بذكر هلاكهم، افتتح السورة الأخرى بعاجل ذلك اللاحق لهم في دنياهم فقال تعالى: فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب حتى إذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق فإما منا بعد وإما فداء حتى تضع الحرب أوزارها الآية. بعد ابتداء السورة بقوله: الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله أضل أعمالهم فنبه على أن أصل محنتهم إنما هو [ ص: 197 ] بما أراده تعالى بهم في سابق علمه ليعلم المؤمنون أن الهدى والضلال بيده، فنبه على الطريقين بقوله: أضل أعمالهم وقوله في الآخر: كفر عنهم سيئاتهم وأصلح بالهم ثم بين أنه تعالى لو شاء لانتصر منهم ولكن أمر المؤمنين بقتالهم ابتلاء واختبارا، ثم حض المؤمنين على ما أمرهم به من ذلك فقال: إن تنصروا الله ينصركم ثم التحمت الآي. انتهى.