ولما بين شرط استحقاقهم للعذاب، بين وقته، وفيه بيان لعلته، فقال: إذ أي: حين جعل الذين كفروا أي: ستروا ما تراءى من الحق في مرأى عقولهم في قلوبهم أي: قلوب أنفسهم الحمية أي: [ ص: 330 ] المنع الشديد والأنفة والإباء الذي هو في شدة حره ونفوذه في أشد الأجسام كالسم والنار، ولما كان مثل هذه الحمية قد تكون موجبة للرحمة بأن تكون لله، قال مبينا معظما لجرمها، حمية الجاهلية التي مدارها مطلق المنع؛ أي سواء كان بحق أو بباطل، فتمنع من الإذعان للحق، ومبناها التشفي على مقتضى الغضب لغير الله فتوجب تخطي حدود الشرع، ولذلك أنفوا من دخول المسلمين مكة المشرفة لزيارة البيت [العتيق] الذي الناس فيه سواء، ومن الإقرار بالبسملة، فأنتجت لهم هذه الحمية أن تكبروا عن كلمة التقوى وطاشوا وخفوا إلى الشرك الذي هو أبطل الباطل.
ولما كانت هذه الحمية مع الكثرة موجبة ولا بد ذل من تصوب إليه ولا سيما إن كان قليلا، بين دلالة على أن الأمر تابع لمشيئته لا لجاري العادة أنه تأثر عنها ضد ما تقتضيه عادة، فقال مسببا عن هذه الحمية: فأنـزل الله أي: الذي لا يغلبه شيء وهو يغلب كل شيء بسبب حميتهم سكينته أي: الشيء اللائق إضافته إليه سبحانه من الفهم عن الله والروح الموجب لسكون القلب المؤثر للإقدام على العدو والنصر عليه، إنزالا كائنا على رسوله صلى الله عليه وسلم الذي عظمته من عظمته، [ ص: 331 ] ففهم عن الله مراده في هذه القضية فجرى على أتم ما يرضيه وعلى المؤمنين رضي الله تعالى عنهم العريقين في الإيمان؛ لأنهم أتباع رسوله صلى الله عليه وسلم وأنصار دينه فألزمهم قبول أمره الذي [فهمه عن الله و] خفي عن أكثرهم حتى [فهمتموه] صلى الله عليه وسلم عند نزول سورة محمد وحماهم عن همزات الشياطين، ولم يدخلهم ما دخل الكفار من الحمية ليقاتلوا غضبا لأنفسهم فيتعدوا حدود الشرع وألزمهم أي: المؤمنين إلزام إكرام أو تشريف، لا إلزام إهانة وتعنيف كلمة التقوى وهي كل قول أو فعل ناشئ عن التقوى وإعلاء كلمة الإخلاص المتقدم في سورة القتال وهي لا إله إلا الله التي هي أحق الحق، يقتضي التحقق بمدلولها من أنه لا فاعل إلا الله الثبات على كل ما أخبر به رسول الله صلى الله عليه وسلم من التوحيد والبسملة والرسالة مع تغيير الكتابة بكل منهما لأجل الكفار في ذلك المقام الدحض الذي لا يكاد يثبت فيه قدم، وأضافها إلى التقوى التي هي اتخاذ ساتر يقي حر النار فجعلها وصفا لازما لهم غير منفك عنهم لأنها سببها الحامل عليها، ويجمع الحامل على التقوى اعتقاد الوحدانية؛ وهي لا إله إلا الله؛ فإنها كلمة - كما قال الرازي - أولها نفي الشرك، وآخرها تعلق بالإلهية، وهذا من أعلام النبوة؛ فإن أهل الحديبية الذين ألزموا هذه الكلمة ماتوا كلهم [ ص: 332 ] على الإسلام وكانوا أي: جبلة وطبعا.
ولما كان من الكفار من يستحقها في علم الله فيصير مؤمنا، عبر بأفعل التفضيل فقال تعالى: أحق بها أي: كلمة التقوى من الكفار والأعراب وغيرهم من جميع الخلق، ولمثل هذا التعميم أطلق الأمر بحذف المفضل عليه. ولما كان الأحق بالشيء قد لا يكون أهله من أول الأمر قال تعالى: وأهلها أي: ولاتها والملازمون لها ملازمة العشير بعشيره، والدائنون لها والآلفون لها. ولما كان الحكم بذلك لا يكون إلا لعالم قال عاطفا على ما تقديره: لما علم الله من صلاح قلوبهم وصفائها: وكان الله أي: المحيط بالكائنات كلها علما وقدرة بكل شيء من ذلك وغيره عليما أي: محيط العلم الدقيق والجلي، والآية من الاحتباك: ذكر حمية الجاهلية أولا دليلا على ضدها ثانيا، وكلمة التقوى ثانيا دليلا على ضدها أولا، وسره أنه ذكر مجمع الشر أولا ترهيبا منه ومجمع الخير ثانيا ترغيبا فيه.