ولما كان غالب ما مضى مبنيا على الأموال تارة بالإرث؛ وتارة بالجعل في النكاح؛ حلالا أو حراما; قال (تعالى) - إنتاجا مما مضى؛ بعد أن بين الحق من الباطل؛ وبين ضعف هذا النوع كله؛ فبطل تعليلهم لمنع النساء؛ والصغار من الإرث بالضعف؛ وبعد أن بين كيفية الترصف في أمر النكاح بالأموال؛ وغيرها حفظا للأنساب؛ ذاكرا كيفية التصرف في الأموال؛ تطهيرا للإنسان؛ مخاطبا لأدنى الأسنان في الإيمان؛ ترفيعا لغيرهم عن مثل هذا الشأن -: يا أيها الذين آمنوا ؛ أي: أقروا بالإيمان والتزام الأحكام؛ ولما كان الأكل أعظم المقاصد بالمال؛ وكان العرب يرون التهافت على الأكل أعظم العار؛ وإن كان حلالا; كنى به التناول [ ص: 259 ] فقال: لا تأكلوا ؛ أي: تتناولوا؛ أموالكم ؛ أي: الأموال التي جعلها الله قياما للناس؛ بينكم بالباطل ؛ أي: من التسبب فيها؛ بأخذ نصيب النساء والصغار؛ من الإرث؛ وبعضل بعض النساء؛ وغير ذلك؛ مما تقدم النهي عنه؛ وغيره.
ولما نهى عن استدرك ما ليس كذلك؛ فقال: الأكل بالباطل؛ إلا أن تكون ؛ أي: المعاملة المدارة المتداولة بينكم؛ تجارة ؛ هذا في قراءة الكوفيين بالنصب؛ وعلى قراءة غيرهم: إلا أن توجد تجارة كائنة؛ عن تراض منكم ؛ أي: غير منهي عنه من الشارع؛ ولعل الإتيان بأداة الاستثناء المتصل - والمعنى على المنقطع - للإشارة إلى أن تصرفات الدنيا كلها جديرة بأن يجري عليها اسم الباطل؛ ولو لم يكن "إلا"؛ معنيا بها تزهيدا فيها؛ وصدا عن الاستكثار منها؛ وترغيبا فيما يدوم نفعه ببقائه؛ وهكذا كل استثناء منقطع في القرآن؛ من تأمله حق التأمل وجد للعدول عن الحرف الموضوع له - وهو "لكن" - إلى صورة الاستثناء حكمة بالغة؛ والله الموفق.
ولما كان المال عديل الروح؛ ونهى عن إتلافه بالباطل؛ نهى عن [ ص: 260 ] إتلاف النفس؛ لكون أكثر إتلافهم لها بالغارات؛ لنهب الأموال؛ وما كان بسببها؛ وتسبيبها؛ على أن من أكل ماله ثارت نفسه؛ فأدى ذلك إلى الفتن التي ربما كان آخرها القتل؛ فكان النهي عن ذلك أنسب شيء؛ لما بنيت عليه السورة من التعاطف؛ والتواصل؛ فقال (تعالى): ولا تقتلوا أنفسكم ؛ أي: حقيقة؛ بأن يباشر الإنسان قتل نفسه؛ أو مجازا بأن يقتل بعضكم بعضا؛ فإن الأنفس واحدة؛ وذلك أيضا يؤدي إلى قتل نفس القاتل؛ فلا تغفلوا عن حظ أنفسكم من الشكر؛ فمن غفل عن حظها فكأنما قتلها؛ ثم علله بما يلين أقسى الناس؛ فقال: إن الله ؛ أي: مع ما له من صفات العظمة؛ التي لا تدانيها عظمة؛ كان بكم ؛ أي: خاصة؛ حيث خفف عليكم ما شدده على من كان قبلكم؛ رحيما ؛ أي: بليغ الرحمة؛ حيث يسر لكم الطاعة؛ ووفقكم لها؛ فأبلغ - سبحانه - الترغيب في الامتثال;