ولما كان علم جميع أحوال المخلوق دالا على أن العلم بها هو خالقه ، وأن من ادعى أن خالقه عاجز عن ضبط مملكته عن كشف غيره لعوراتها وعلم ما لا يعلمه هو منها ، فلم يكن إلها ، وكان الإله هو العالم وحده ، وكان المحيط العلم لا يعسر عليه تمييز التراب من التراب ، وكان - صلى الله عليه وسلم - يخبرهم عن الله من مغيبات أسرارهم وخفايا أخبارهم مما يقصون منه العجب ويعلمون منه إحاطة العلم حتى قال يوم الفتح : لو تكلمت لأخبرت عني هذه الحصباء ، قال تعالى عاطفا أبو سفيان بن حرب هو الذي دالا على الوحدانية بشمول العلم بعد قيام الدليل على تمام القدرة والاختيار ؛ لأن إنكارهم المعاد لأمرين : أحدهما ظن أن المؤثر في الأبدان امتزاج الطبائع وإنكار أن المؤثر هو قادر مختار ، والثاني أنه - على تقدير تسليم الاختيار - غير عالم بالجزئيات ، فلا يمكنه تمييز بدن زيد عن أجزاء بدن عمرو ، فإذا قام الدليل على [ ص: 19 ] كمال قدرته - سبحانه - واختياره وشمول علمه لجميع المعلومات : الكليات والجزئيات - زالت جميع الشبهات : وهو الله أي : الذي له هذا الاسم المستجمع لجميع الأسماء الحسنى والصفات العلى المدعو به تألها له وخضوعا وتعبدا ، وعلق بهذا المعنى قوله : في السماوات [لأن من في الشيء يكون متصرفا فيه] .
ولما كان الخطاب لمنكري البعث أكد فقال : وفي الأرض أي : هذه صفته دائما [على هذا المراد من أنه - سبحانه - ثابت له هذا الاسم الذي تفرد به على وجه التأله والتعبد في كل من جهتي العلو والسفل ، ولا يفهم ذو عقل صحيح ما يقتضيه الظاهر من أنه محوي ، فإن كل محوي منحصر محتاج إلى حاويه وحاصره ، ضعيف التصرف فيما وراءه ، ومن كان محتاجا نوع احتياج لا يصلح للألوهية والمشيئة لحديث الجارية : أين الله؟ قالت : في السماء ، ومحجوج بحديث : فإن ظاهره مناف لظاهر الأول ، وظاهر هذا مؤيد بقاطع النقل من أنه غير محتاج ، ومؤيد بصحيح النقل ( أنت الأول فليس قبلك شيء ، وأنت الآخر فليس بعدك شيء ، وأنت الظاهر فليس فوقك شيء ، وأنت الباطن فليس دونك شيء ) ليس كمثله شيء أي : لا في ذاته ولا صفاته ولا شيء من شؤونه ، و ، وحديث ( قد كان الله ولا شيء معه ) - رواه ( ليس فوقك شيء ) مسلم والترمذي في الدعوات ، وابن ماجه في الأدب عن وأبو داود - رضي الله عنه - والله الموفق] . أبي هريرة
[ ص: 20 ] ولما كان المراد إثبات أن علمه تعالى محيط ، نسبة كل من الخفي والجلي إليه على السواء ، وكان السياق هنا للخفي فإنه في بيان خلق الإنسان وعجيب صنعه فيه بما خلق فيه من إدراك المعاني وهيأه له من قبل أن يقدر على التعبير عنه ، ثم أقدره على ذلك - قدم الخفي فقال شارحا لكونه لا يغيب عنه شيء : يعلم سركم
ولما كان لا ملازمة بين علم السر والجهر لأنه قد يكون في الجهر لفظ شديد يمنع اختلاط الأصوات فيه من علمه ، صرح به فقال : وجهركم ونسبة كل منها إليه على حد سواء ، ولا توصف واحدة منها بقرب في المسافة إليه ولا بعد ، ولما كان السر والجهر شائعين في الأقوال ، وكانت الأقوال تتعلق بالسمع - ذكر ما يعمهما وهو شائع في الأفعال المتعلقة بالبصر ، فقال : ويعلم ما تكسبون فأفاد ذلك صفتي السمع والبصر مع إثبات العلم ،