قوله: "أن تبروا" فيه ستة أوجه، أحدها وهو قول الزجاج وغيرهما، أنها في محل رفع بالابتداء، والخبر محذوف تقديره: أن تبروا وتتقوا وتصلحوا خير لكم من أن تجعلوه عرضة لأيمانكم، أو بركم [ ص: 426 ] أولى وأمثل، وهذا ضعيف; لأنه يؤدي إلى انقطاع هذه الجملة عما قبلها، والظاهر تعلقها به. والتبريزي
الثاني: أنها في محل نصب على أنها مفعول من أجله، وهذا قول الجمهور، ثم اختلفوا في تقديره، فقيل: إرادة أن تبروا، وقيل: كراهة أن تبروا، قاله المهدوي، وقيل: لترك أن تبروا، قال وقيل: لئلا تبروا: قاله المبرد، أبو عبيدة وأنشدا: والطبري،
954 -... فلا والله تهبط تلعة ... ... ... ...
أي: لا تهبط، فحذف "لا" ومثله: "يبين الله لكم أن تضلوا" أي: لئلا تضلوا. وتقدير الإرادة هو الوجه، وذلك أن التقادير التي ذكرتها بعد تقدير الإرادة لا يظهر معناها، لما فيه من تعليل امتناع الحلف بانتفاء البر، بل وقوع الحلف معلل بانتفاء البر، ولا ينعقد منهما شرط وجزاء، لو قلت في معنى هذا النهي وعلته: "إن حلفت بالله بررت" لم يصح، بخلاف تقدير الإرادة، فإنه يعلل امتناع الحلف بإرادة وجود البر، وينعقد منهما شرط وجزاء، تقول: إن حلفت لم تبر وإن لم تحلف بررت.
الثالث، أنها على إسقاط حرف الجر، أي: في أن تبروا، وحينئذ يجيء فيها القولان: قول سيبويه فتكون في محل نصب، وقول والفراء، الخليل فتكون في محل جر. وقال والكسائي "ويتعلق الزمخشري: "أن [ ص: 427 ] تبروا" بالفعل أو بالعرضة، أي: ولا تجعلوا الله لأجل أيمانكم عرضة لأن تبروا". قال الشيخ: "وهذا التقدير لا يصح للفصل بين العامل ومعموله بأجنبي، وذلك أن "لأيمانكم" عنده متعلق بتجعلوا، فوقع فاصلا بين "عرضة" التي هي العامل وبين "أن تبروا" الذي هو في أن تبروا، وهو أجنبي منهما. ونظير ما أجازه أن تقول: "امرر واضرب بزيد هندا، وهو غير جائز ونصوا على أنه لا يجوز: "جاءني رجل ذو فرس راكب أبلق" أي رجل ذو فرس أبلق راكب، لما فيه من الفصل بالأجنبي.
الرابع: أنها في محل جر عطف بيان لأيمانكم، أي للأمور المحلوف عليها التي هي البر والتقوى والإصلاح. قال الشيخ: "وهو ضعيف لما فيه من جعل الأيمان بمعنى المحلوف عليه"، والظاهر أنها هي الأقسام التي يقسم بها، ولا حاجة إلى تأويلها بما ذكر من كونها بمعنى المحلوف عليه إذ لم تدع إليه ضرورة، وهذا بخلاف الحديث، وهو قوله صلى الله عليه وسلم: فإنه لا بد من تأويله فيه بالمحلوف عليه، ولا ضرورة تدعو إلى ذلك في الآية الكريمة. "إذا حلفت على يمين فرأيت غيرها خيرا منها"
الخامس: أن تكون في محل جر على البدل من "لأيمانكم" بالتأويل [ ص: 428 ] الذي ذكره وهذا أولى من وجه عطف البيان، فإن عطف البيان أكثر ما يكون في الأعلام. الزمخشري،
السادس: - وهو الظاهر - أنها على إسقاط حرف الجر لا على ذلك الوجه المتقدم، بل الحرف غير الحرف، والمتعلق غير المتعلق، والتقدير: "لإقسامكم على أن تبروا" فـ "على" متعلق بإقسامكم، والمعنى: ولا تجعلوا الله معرضا ومتبدلا لإقسامكم على البر والتقوى والإصلاح التي هي أوصاف جميلة خوفا من الحنث، فكيف بالإقسام على ما ليس فيه بر ولا تقوى !!!.
والعرضة في اشتقاقها ثلاثة أقوال، أحدها: أنها فعلة بمعنى مفعول من العرض كالقطبة والغرفة. ومعنى الآية على هذا: لا تجعلوه معرضا للحلف من قولهم: فلان عرضة لكذا أي: معرض، قال كعب:
955 - من كل نضاخة الذفرى إذا عرقت عرضتها طامس الأعلام مجهول
956 - متى كان سمعي عرضة للوائم وكيف صفت للعاذلين عزائمي
957 - ... ... ... ... هم الأنصار عرضتها اللقاء
[ ص: 429 ] وقال أوس:
958 - وأدماء مثل الفحل يوما عرضتها لرحلي وفيها هزة وتقاذف
والثاني: أنها اسم ما تعرضه على الشيء، فيكون من: عرض العود على الإناء فيعترض دونه، ويصير حاجزا ومانعا، ومعنى الآية على هذا النهي عن أن يحلفوا بالله على أنهم لا يبرون ولا يتقون ويقولون: لا نقدر أن نفعل ذلك لأجل حلفنا.
والثالث: أنها من العرضة وهي القوة، يقال: "جمل عرضة للسفر" أي قوي عليه، وقال ابن الزبير:
959 - فهذي لأيام الحروب وهذه للهوى وهذي عرضة لارتحالنا
والأيمان: جمع يمين، وأصلها العضو، واستعملت في الحلف مجازا لما جرت عادة المتعاقدين بتصافح أيمانهم. واشتقاقها من اليمن. واليمين أيضا اسم للجهة التي تكون من ناحية هذا العضو فينتصب على الظرف، وكذلك اليسار تقول: زيد يمين عمرو وبكر يساره. وتجمع اليمين على أيمن وأيمان. وهل المراد بالأيمان في الآية القسم نفسه أو المقسم عليه؟ قولان، الأول أولى. وقد تقدم تجويز أن يكون المراد به المحلوف عليه واستدلاله بالحديث والجواب عن ذلك.
[ ص: 430 ] قوله: "والله سميع عليم" ختم بهاتين الصفتين لتقدم مناسبتهما، فإن الحلف متعلق بالسمع، وإرادة البر من فعل القلب متعلقة بالعلم. وقدم السميع لتقدم متعلقه وهو الحلف.