[ ص: 181 ] سورة القدر
وفيها قولان .
أحدهما: أنها مكية، رواه عن أبو صالح ابن عباس .
والثاني: مدنية، قاله الضحاك، قال ومقاتل . والأول قول الأكثرين . وقال الماوردي: الثاني قول الأكثرين . الثعلبي:
بسم الله الرحمن الرحيم
إنا أنزلناه في ليلة القدر وما أدراك ما ليلة القدر ليلة القدر خير من ألف شهر تنزل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم من كل أمر سلام هي حتى مطلع الفجر .
قوله تعالى: إنا أنزلناه يعني: القرآن في ليلة القدر وذلك أنه أنزل جملة في تلك الليلة إلى بيت العزة، وهو بيت في السماء الدنيا . وقد ذكرنا هذا الحديث في أول كتابنا . والهاء في " إنا أنزلناه " كناية عن غير مذكور . وقال [ ص: 182 ] قد جرى ذكره في قوله تعالى: الزجاج: إنا أنزلناه في ليلة مباركة [الدخان: 3] .
فأما ليلة القدر ففي تسميتها بذلك خمسة أقوال .
أحدها: أن القدر: العظمة، من قولك: لفلان قدر، قاله ويشهد له قوله تعالى: الزهري . وما قدروا الله حق قدره [الأنعام: 91] و [الزمر: 67] .
والثاني: أنه من الضيق، أي: هي ليلة تضيق فيها الأرض عن الملائكة الذين ينزلون، قاله ويشهد له قوله تعالى: الخليل بن أحمد، ومن قدر عليه رزقه [الطلاق: 7] .
والثالث: أن القدر: الحكم كأن الأشياء تقدر فيها، قاله ابن قتيبة .
والرابع: لأن من لم يكن له قدر صار بمراعاتها ذا قدر، قاله أبو بكر الوراق .
والخامس: لأنه نزل فيها كتاب ذو قدر، وتنزل فيها رحمة ذات قدر، وملائكة ذوو قدر، حكاه شيخنا علي بن عبيد الله .
فصل
واختلف العلماء والصحيح بقاؤها . هل ليلة القدر باقية، أم كانت في زمن النبي صلى الله عليه وسلم خاصة؟
وهل هي في جميع السنة، أم في رمضان؟
فيه قولان .
[ ص: 183 ] أحدهما: في رمضان، قاله الجمهور .
والثاني: في جميع السنة، قاله ابن مسعود .
واختلف القائلون بأنها في شهر رمضان هل تختص ببعضه دون بعض؟ على قولين .
أحدهما: أنها في العشر الأواخر، قاله الجمهور، وأكثر الأحاديث الصحيحة تدل عليه .
وقد روى في أفراده من حديث البخاري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " ابن عباس، " . وفي حديث التمسوها في العشر الأواخر من رمضان، في تاسعة تبقى، أو سابعة تبقى، أو في خامسة تبقى قال: أبي بكرة " . ما أنا بملتمسها لشيء سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم، إلا في العشر الأواخر، فإني سمعته يقول: " التمسوها في تسع يبقين، أو سبع يبقين، أو خمس يبقين، أو ثلاث يبقين، أو آخر ليلة
[ ص: 184 ] والقول الثاني: أنها في جميع رمضان، قاله الحسن البصري .
واختلف القائلون بأنها في العشر الأواخر هل تختص ليالي الوتر دون الشفع؟ على قولين .
أحدهما: أنها تختص الأفراد، قاله الجمهور . والأحاديث الصحاح كلها تدل عليه . وقد أخرج البخاري في " الصحيحين " من حديث ومسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: أبي سعيد الخدري ابتغوها في العشر الأواخر في الوتر منها .
والثاني: أنها تكون في الشفع كما تكون في الوتر، قاله . وروي عن الحسن الحسن قالا: هي ليلة ثماني عشرة . ومالك بن أنس
واختلف القائلون بأنها في الأفراد في أخص الليالي بها على خمسة أقوال .
أحدها: أن الأخص بها ليلة إحدى وعشرين . فروى البخاري في [ ص: 185 ] " الصحيحين " من حديث ومسلم قال: أبي سعيد الخدري وهذا مذهب اعتكف رسول الله صلى الله عليه وسلم العشر الوسط، واعتكفنا معه، فلما أصبحنا صبيحة عشرين رجع، ورجعنا معه، وأري ليلة القدر، ثم أنسيها، فقال: " إني رأيت ليلة القدر، ثم أنسيتها وأراني أسجد في ماء وطين، فمن اعتكف فليرجع إلى معتكفه، وهاجت علينا السماء آخر تلك العشية، وكان سقف المسجد عريشا من جريد، فوكف [المسجد] فوالذي هو أكرمه، وأنزل عليه الكتاب لرأيته يصلي، بدأ المغرب ليلة إحدى وعشرين، وإن جبهته وأرنبة أنفه لفي الماء والطين، الشافعي .
والثاني: أن الأخص بها ليلة ثلاث وعشرين . روى أبو هريرة " . أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ليلة ثلاث وعشرين: " اطلبوها الليلة
وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ابن عمر " . من كان منكم يريد أن يقوم من الشهر شيئا فليقم ليلة ثلاث وعشرين
[ ص: 186 ] وروى في أفراده من حديث مسلم عبد الله بن أنيس، عبد الله بن أنيس يقول: ليلة ثلاث وعشرين . أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أريت ليلة القدر، ثم أنسيتها، وأراني صبحها أسجد في ماء وطين . قال: فمطرنا ليلة ثلاث وعشرين، فصلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فانصرف وإن أثر الماء والطين على جبهته وأنفه . قال: وكان
والثالث: ليلة خمس وعشرين، روى هذا المعنى عن النبي صلى الله عليه وسلم . أبو بكرة
[ ص: 187 ] والرابع: ليلة سبع وعشرين، روى في أفراده من حديث مسلم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ابن عمر، يعني: ليلة القدر، وهذا مذهب من كان متحريا فليتحرها ليلة سبع وعشرين، علي وكان وأبي بن كعب . يحلف لا يستثني أنها ليلة سبع وعشرين . وبه قال أبي ابن عباس، وعائشة، واختاره ومعاوية . رضي الله عنه . أحمد
وروي عن أنه استدل على ذلك بشيئين . ابن عباس:
[ ص: 188 ] أحدهما: أنه قال: إن الله تعالى خلق الإنسان على سبعة أصناف، يشير إلى قوله تعالى: ولقد خلقنا الإنسان من سلالة [المؤمنين: 12] الآيات . ثم جعل رزقه في سبعة أصناف يشير إلى قوله تعالى: أنا صببنا الماء صبا [عبس: 25] ثم تصلى الجمعة على رأس سبعة أيام، وجعل السموات سبعا، والأرضين سبعا، والمثاني سبعا، فلا أرى ليلة القدر إلا ليلة السابعة [وعشرين] .
والثاني: أنه قال: قوله تعالى: سلام هي الكلمة السابعة والعشرون، فدل على أنها كذلك .
واحتج بعضهم فقال: ليلة القدر كررت في هذه السورة ثلاث مرات، وهي تسعة أحرف، والتسعة إذا كررت ثلاثا فهي سبع وعشرون، وهذا تنبيه على ذلك .
والقول الخامس: أن الأولى طلبها في أول ليلة من رمضان، قاله أبو رزين العقيلي .
[ ص: 189 ] وروى عن أيوب أبي قلابة أنه قال: ليلة القدر تنتقل في العشر الأواخر .
فأما الحكمة في إخفائها فليتحقق اجتهاد العباد في ليالي رمضان طمعا منهم في إدراكها، كما أخفى ساعة الجمعة، وساعة [ ص: 190 ] الليل، واسمه الأعظم، والصلاة الوسطى، والولي في الناس .
[ ص: 191 ] قوله تعالى: وما أدراك ما ليلة القدر هذا على سبيل التعظيم والتشوق إلى خيرها .
قوله تعالى: ليلة القدر خير من ألف شهر قال قيامها والعمل فيها خير من قيام ألف شهر وصيامها ليس فيها ليلة القدر، وهذا قول مجاهد: واختيار قتادة، الفراء، وابن قتيبة، وروى والزجاج . عطاء عن أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر له رجل من بني إسرائيل حمل السلاح على عاتقه في سبيل الله ألف شهر، فعجب رسول الله صلى الله عليه وسلم لذلك، وتمنى أن يكون ذلك في أمته، فأعطاه الله ليلة القدر، [ ص: 192 ] وقال: هي خير من ألف شهر التي حمل فيها الإسرائيلي السلاح في سبيل الله . ابن عباس وذكر بعض المفسرين أنه كان الرجل فيما مضى لا يستحق أن يقال له: عابد حتى يعبد الله ألف شهر كانوا يعبدون فيها .
قوله تعالى: تنزل الملائكة قال الملائكة ليلة القدر في الأرض أكثر من عدد الحصى . أبو هريرة:
[ ص: 193 ] وفي " الروح " ثلاثة أقوال .
أحدها: أنه جبريل، قاله الأكثرون . وفي حديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أنس إذا كانت ليلة القدر نزل جبريل في كبكبة من الملائكة يصلون ويسلمون على كل عبد قائم أو قاعد يذكر الله عز وجل .
والثاني: أن الروح: طائفة من الملائكة لا تراهم الملائكة إلا تلك الليلة ينزلون من لدن غروب الشمس إلى طلوع الفجر، قاله كعب، ومقاتل بن حيان .
والثالث: أنه ملك عظيم يفي بخلق من الملائكة، قال الواقدي .
قوله تعالى: فيها أي: في ليلة القدر بإذن ربهم أي: بما أمر به وقضاه من كل أمر قال أي: بكل أمر . قال المفسرون: يتنزلون بكل أمر قضاه الله في تلك السنة إلى قابل . وقرأ ابن قتيبة: ابن عمر، وابن عباس، وأبو العالية، " من كل امرئ " ، بكسر الراء وبعدها همزة مكسورة منونة . وبوصل اللام من غير همز . ولهذه القراءة وجهان . وأبو عمران الجوني:
أحدهما: من كل ملك سلام .
والثاني: أن تكون " من " بمعنى " على " تقديره: على كل امرئ من المسلمين سلام من الملائكة، كقوله تعالى: ونصرناه من القوم الذين كذبوا [الأنبياء: 77] . والقراءة الموافقة لخط المصحف هي الصواب . ويكون تمام الكلام عند قوله تعالى: [ ص: 194 ] من كل أمر ثم ابتدأ فقال تعالى: سلام هي أي: ليلة القدر سلام . وفي معنى السلام قولان .
أحدهما: أنه لا يحدث فيها داء ولا يرسل فيها شيطان، قاله مجاهد .
والثاني: أن معنى السلام: الخير والبركة، قاله وكان بعض العلماء يقول: الوقف على " سلام " على معنى تنزل الملائكة بالسلام . قتادة .
قوله تعالى: حتى مطلع الفجر قرأ ابن كثير، ونافع، وعاصم، ، وأبو عمرو وابن عامر، " مطلع " بفتح اللام . وقرأ وحمزة: بكسرها . قال الكسائي والفتح أقوى في قياس العربية، لأن المطلع بالفتح: الطلوع، وبالكسر: الموضع الذي يطلع منه، إلا أن الفراء: العرب تقول: طلعت الشمس مطلعا، بالكسر، وهم يريدون المصدر، كما تقول: أكرمتك كرامة، فتجتزئ بالاسم عن المصدر . وقد شرحنا هذا المعنى في " الكهف " عند قوله تعالى: مطلع الشمس [آية: 9] شرحا كافيا، ولله الحمد .