ثم أنزل عليكم من بعد الغم أمنة نعاسا يغشى طائفة منكم وطائفة قد أهمتهم أنفسهم يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية يقولون هل لنا من الأمر من شيء قل إن الأمر كله [ ص: 480 ] لله يخفون في أنفسهم ما لا يبدون لك يقولون لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا ها هنا قل لو كنتم في بيوتكم لبرز الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم وليبتلي الله ما في صدوركم وليمحص ما في قلوبكم والله عليم بذات الصدور .
قوله تعالى: (ثم أنزل عليكم من بعد الغم أمنة) قال الأمنة: الأمن . يقال: وقعت الأمنة في الأرض . وقال ابن قتيبة: معنى الآية: أعقبكم بما نالكم من الرعب أن أمنكم أمنا تنامون معه ، لأن الشديد الخوف لا يكاد ينام . و"نعاسا" منصوب على البدل من "أمنة" يقال: نعس الرجل ينعس نعاسا ، فهو ناعس . وبعضهم يقول: نعسان . قال الزجاج: قد سمعتها ، ولكني لا أشتهيها . قال العلماء: النعاس: أخف النوم . وفي وجه الامتنان عليهم بالنعاس قولان . الفراء:
أحدهما: أنه أمنهم بعد خوفهم حتى ناموا ، فالمنة بزوال الخوف ، لأن الخائف لا ينام . والثاني: قواهم بالاستراحة على القتال .
قوله تعالى: (يغشى طائفة منكم) قرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو ، ، وعاصم "يغشى" بالياء مع التفخيم ، وهو يعود إلى النعاس . وقرأ وابن عامر: حمزة ، والكسائي ، "تغشى" بالتاء مع الإمالة ، وهو يرجع إلى الأمنة . فأما الطائفة التي غشيها النوم ، فهم المؤمنون ، والطائفة الذين أهمتهم أنفسهم: المنافقون ، أهمهم خلاص أنفسهم ، فذهب النوم عنهم . قال وخلف: كان السيف يسقط من يدي ، ثم أخذه ، ثم يسقط ، وأخذه من النعاس . وجعلت أنظر ، وما منهم أحد يومئذ إلا يميد تحت حجفته [ ص: 481 ] من النعاس . وقال أبو طلحة: أرسل الله علينا النوم ، فما منا رجل إلا ذقنه في صدره ، فوالله إني لأسمع كالحلم قول الزبير: معتب بن قشير: (لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا ها هنا) فحفظتها منه .
قوله تعالى: (يظنون بالله غير الحق) فيه أربعة أقوال .
أحدها: أنهم ظنوا أن الله لا ينصر محمدا وأصحابه ، رواه عن أبو صالح ابن عباس .
والثاني: أنهم كذبوا بالقدر ، رواه عن الضحاك ، ابن عباس .
والثالث: أنهم ظنوا أن محمدا قد قتل ، قاله مقاتل .
والرابع: ظنوا أن أمر النبي صلى الله عليه وسلم مضمحل ، قاله الزجاج .
قوله تعالى: (ظن الجاهلية) قال أي: كظن الجاهلية . ابن عباس:
قوله تعالى: (يقولون هل لنا من الأمر من شيء) لفظه لفظ الاستفهام ، ومعناه: الجحد ، تقديره ما لنا من الأمر من شيء . قال قالوا لو كان الأمر إلينا ما خرجنا ، وإنما أخرجنا كرها . وقال غيره: المراد بالأمر: النصر والظفر ، قالوا: إنما النصر للمشركين الحسن (قل إن الأمر كله) ، أي: النصر ، والظفر ، والقضاء والقدر (لله) والأكثرون قرؤوا (إن الأمر كله لله) بنصب اللام ، وقرأ برفعها ، قال أبو عمرو أبو علي: حجة من نصب ، أن "كله" بمنزلة "أجمعين" في الإحاطة والعموم ، فلو قال: إن الأمر [ ص: 482 ] أجمع لم يكن إلا النصب ، و"كله" بمنزلة "أجمعين" ومن رفع ، فلأنه قد ابتدأ به ، كما ابتدأ بقوله تعالى: (كلهم آتيه) .
قوله تعالى: (يخفون في أنفسهم) في الذي أخفوه ثلاثة أقوال .
أحدها: أنه قولهم: (لو كنا في بيوتنا ما قتلنا هاهنا) .
والثاني: أنه إسرارهم الكفر ، والشك في أمر الله .
والثالث: الندم على حضورهم مع المسلمين بأحد .
قال والذي قال: أبو سليمان الدمشقي: (هل لنا من الأمر من شيء) عبد الله بن أبي . والذي قال: (لو كان لنا من الأمر من شيء) معتب بن قشير .
قوله تعالى: (قل لو كنتم في بيوتكم) أي: لو تخلفتم ، لخرج منكم من كتب عليه القتل ، ولم ينجه القعود . والمضاجع: المصارع بالقتل . قال ومعنى (برزوا): صاروا إلى براز ، وهو المكان المنكشف . ومعنى الزجاج: (وليبتلي الله ما في صدوركم) أي: ليختبره بأعمالكم ، لأنه قد علمه غيبا ، فيعلمه شهادة .
قوله تعالى: (وليمحص ما في قلوبكم) قال أراد ليظهرها من الشك والارتياب بما يريكم من عجائب صنعه من الأمنة ، وإظهار سرائر المنافقين . وهذا التمحيص خاص للمؤمنين . وقال غيره أراد بالتمحيص . إبانة ما في القلوب من الاعتقاد لله ، ولرسوله ، وللمؤمنين ، فهو خطاب للمنافقين . قتادة:
قوله تعالى: (والله عليم بذات الصدور) أي: بما فيها . وقال معناه عليم بحقيقة ما في الصدور من المضمرات ، فتأنيث ذات بمعنى الحقيقة ، كما تقول ابن الأنباري: العرب: لقيته ذات يوم . فيؤنثون لأن مقصدهم: لقيته مرة في يوم .