القول في تأويل قوله تعالى:
[ 29 ]
nindex.php?page=treesubj&link=30539_32006_29007nindex.php?page=tafseer&surano=36&ayano=29إن كانت إلا صيحة واحدة فإذا هم خامدون .
[ ص: 4999 ] nindex.php?page=tafseer&surano=36&ayano=29إن كانت إلا صيحة واحدة أي: ما كانت العقوبة إلا صيحة واحدة من السماء هلكوا بها:
nindex.php?page=tafseer&surano=36&ayano=29فإذا هم خامدون ميتون كالنار الخامدة، رمزا إلى أن الحي كالنار الساطعة في الحركة والالتهاب، والميت كالرماد، كما قال لبيد:
وما المرء إلا كالشهاب وضوئه يحور رمادا بعد إذ هو ساطع
تنبيهات:
الأول - قال
nindex.php?page=showalam&ids=16456ابن كثير : روي عن كثير من السلف أن هذه القرية هي
أنطاكية ، وأن هؤلاء الثلاثة كانوا رسلا من عند
المسيح عيسى عليه السلام، كما نص عليه
nindex.php?page=showalam&ids=16815قتادة وغيره، وهو الذي لم يذكر عن أحد من متأخري المفسرين، غيره. وفي ذلك نظر من وجوه:
أحدها - أن ظاهر القصة يدل على أن هؤلاء كانوا رسل الله عز وجل، لا من جهة
المسيح عليه السلام، كما قال تعالى:
nindex.php?page=tafseer&surano=36&ayano=14إذ أرسلنا إليهم اثنين ولو كان هؤلاء من الحواريين، لقالوا عبارة تناسب أنهم من عند
المسيح عليه السلام. والله أعلم. ثم لو كانوا رسل
المسيح لما قالوا لهم: إن أنتم إلا بشر مثلنا.
الثاني - أن أهل
أنطاكية آمنوا برسل
المسيح إليهم، وكانوا أول مدينة آمنت
بالمسيح ; ولهذا كانت عند النصارى إحدى المدائن الأربعة اللائي فيهن بطاركة، وهن:
القدس ; لأنها بلد
المسيح ،
وأنطاكية ; لأنها أول بلدة آمنت
بالمسيح عن آخر أهلها،
والإسكندرية ; لأن فيها اصطلحوا على اتخاذ البطارقة والأساقفة والشمامسة والرهابين، ثم
رومية ; لأنها مدينة الملك
قسطنطين الذي نصر دينهم وأطده، ولما ابتنى
القسطنطينية نقلوا البطرك من
[ ص: 5000 ] رومية إليها - كما ذكره غير واحد ممن ذكر تواريخهم -
كسعد بن بطريق وغيره من أهل الكتاب والمسلمين - فإذا تقرر أن
أنطاكية أول مدينة آمنت، فأهل هذه القرية ذكر الله تعالى أنهم كذبوا رسله، وأنه أهلكهم بصيحة واحدة أخمدتهم.
الثالث - أن قصة
أنطاكية مع الحواريين أصحاب
المسيح بعد نزول التوراة، وقد ذكر
nindex.php?page=showalam&ids=44أبو سعيد الخدري رضي الله عنه وغير واحد من السلف، أن الله تبارك وتعالى بعد إنزاله التوراة، لم يهلك أمة من الأمم عن آخرهم بعذاب يبعثه عليهم. بل أمر المؤمنين بعد ذلك بقتال المشركين، ذكروه عند قوله تعالى:
nindex.php?page=tafseer&surano=28&ayano=43ولقد آتينا موسى الكتاب من بعد ما أهلكنا القرون الأولى فعلى هذا يتعين أن أهل هذه القرية المذكورة في القرآن، قرية أخرى غير
أنطاكية ، كما أطلق ذلك غير واحد من السلف أيضا، أو تكون
أنطاكية - إن كان لفظها محفوظا في هذه القصة - مدينة أخرى غير المشهورة المعروفة; فإن هذه لم يعرف أنها أهلكت لا في الملة النصرانية، ولا قبل ذلك، والله سبحانه وتعالى أعلم. انتهى كلام ابن كثير.
وأقول: إن
nindex.php?page=treesubj&link=28741_28914من محاسن التنزيل الكريم وبلاغته الخارقة، هو الإيجاز في الأنباء التي يقصها ، والإشارة منها إلى روحها وسرها، حرصا على الثمرة من أول الأمر، واقتصارا على موضع الفائدة، وبعدا عن مشرب القصاص والمؤرخين; لأن
nindex.php?page=treesubj&link=32016_28901القصد من قصصه الاعتبار والذكرى ، وما من حاجة إلى تسمية تلك المبهمات كائنة ما كانت، ثم إن المفسرين رحمهم الله عنوا بالبحث، والأخذ، والتلقي، فكان من سلف منهم يرون فيما يرون أن
nindex.php?page=treesubj&link=29568من العلم تفصيل مجملات التنزيل وإبانة مبهماته ، حتى جعل ذلك فنا برأسه، وألف فيه مؤلفات، ولا بأس في التوسع من العلم والازدياد منه بأي طريقة كانت، لاسيما وقد رفع عنا الحرج بالتحدث عن بني إسرائيل، إلا أنه يؤاخذ من يجزم بتعيين مبهم ما، إن كان جزمه من غير طريق القواطع
[ ص: 5001 ] ; فإن
nindex.php?page=treesubj&link=21425القاطع هو ما تواتر أو صح سنده إلى المعصوم، صحة لا مغمز فيها ، وهذا مفقود في الأكثر، ومنه بحثنا المذكور; فإن تعيين أن البلدة
أنطاكية وتسمية الرسل، إنما روي موقوفا ومنقطعا، وفي بعض إسناده متهمون، ولذا قد يرد على من يقطع بذلك ما لا مخرج له منه،
nindex.php?page=treesubj&link=28954_28962فالمفسر أحسن أحواله أن يمشي مع التنزيل، إجمالا فيما أجمله، وتفصيلا فيما فصله ، ولا يأخذ من إيضاح مبهماته إلا بما قام عليه قاطع أو كان لا ينبذه العلم الصحيح، وإلا فليعرض عن تسويد وجوه الصحف بذلك، بل عن تشويهها.
والذي حمل السلف على قص ما نحن فيه، هو تلقيهم له عن مثل
nindex.php?page=showalam&ids=16850كعب nindex.php?page=showalam&ids=17285ووهب ، وموافقة من في طبقتهما لهما فيه. هذا أولا.
وثانيا شهرة بلدة
أنطاكية في ذلك العهد، لا سيما وقد أسس فيها معبدا أحد رسل
عيسى عليه السلام.
ثالثا ما جرى في
أنطاكية لما قدم ملك الرومان، وتهدد كل من أبى عبادة الأوثان بالقتل، وكان في مقدمة الآبين رجل مقدم في المؤمنين، فأراده على الشرك فأبى وجهر بالتوحيد، فأرسله من
أنطاكية موثقا وأمر بأن يطعم للوحوش، فألقي في
رومية إلى أسدين كبيرين فابتلعاه، ولما قدم لهما استبشر وتهلل لنيل الشهادة في سبيل الله.
وكذلك يؤثر عن رجل مؤمن كان يدافع عن المؤمنين في عهد الرومانيين لغيرته وصلاحه، فطلب منه الحاكم أن يرتد فأبى وجهر بوجوب عبادة الإله الواحد، ونبذ عبادة من لا يضر ولا ينفع. فهدده بأن يضربه من الرأس إلى القدم. فأجاب بأنه مستبشر بنعمة الله وكرامته الأبدية. ثم أمر به الحاكم فقتل مع رفقته، والشواهد في هذا الباب لا تحصى، معروفة لمن أعار نظره جانبا مما كتب في تواريخ مبدأ ظهور الأديان، وما كان يلاقيه من أعدائه ومقاوميه، فللقصة الكريمة هذه مصدقات لا تحصى.
رابعا شهرة المرسلين برسل
عيسى عليه السلام، وكانوا انبثوا في البلاد لمحو الوثنية، والكف عن الكبائر والشرور التي كانت عليها دولة الرومان وقتئذ. هذا وما ذكره
nindex.php?page=showalam&ids=16456ابن كثير من وقوف عذاب الاستئصال بعد نزول التوراة يحتاج إلى قاطع. وإلا، فقد خربت كثير من البلاد الأثيمة بعدها، وتدمرت بتسليط الله من شاء عليها، والصيحة
[ ص: 5002 ] أعم من أن تكون صيحة سماوية، أو صيحة أرضية، وهي صيحة من سلط عليهم للانتقام منهم، حتى أباد ملكهم وقهر صولتهم ومحا من الوجود سلطانهم، وإن كان عذاب الصيحة ظاهره الأول.
وبالجملة فنحن يكفينا من النبأ الاعتبار به وفهمه مجملا ، وأما تعيينه بوقت ما، وفئة ما، فهو الذي ينشأ منه ما ينشأ، وما بنا من حاجة إلى الزيادة عن الاعتبار، وتخصيص ما لا قاطع عليه.
الثاني - ذكر
الرازي في قوله تعالى:
nindex.php?page=tafseer&surano=36&ayano=14إذ أرسلنا لطيفة، إن صح أن الرسل المنوه بهم هم رسل
عيسى عليه السلام، وهي أن إرساله لهم كإرساله تعالى; لأنه بإذنه وأمره، وبذلك تتمة التسلية للنبي صلوات الله عليه، لصيرورتهم في حكم الرسل.
ثم قال: وهذا يؤيد مسألة فقهية; وهي أن وكيل الوكيل بإذن الموكل، وكيل الموكل لا وكيل الوكيل، حتى لا ينعزل بعزل الوكيل إياه، وينعزل إذا عزله الموكل الأول. انتهى.
الثالث - في قوله تعالى:
nindex.php?page=tafseer&surano=36&ayano=20وجاء من أقصى المدينة رجل يسعى تبصرة للمؤمنين وهداية لهم ليكونوا في النصح باذلين جهدهم كما فعل.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى:
[ 29 ]
nindex.php?page=treesubj&link=30539_32006_29007nindex.php?page=tafseer&surano=36&ayano=29إِنْ كَانَتْ إِلا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ .
[ ص: 4999 ] nindex.php?page=tafseer&surano=36&ayano=29إِنْ كَانَتْ إِلا صَيْحَةً وَاحِدَةً أَيْ: مَا كَانَتِ اَلْعُقُوبَةُ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً مِنَ اَلسَّمَاءِ هَلَكُوا بِهَا:
nindex.php?page=tafseer&surano=36&ayano=29فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ مَيِّتُونَ كَالنَّارِ اَلْخَامِدَةِ، رَمْزًا إِلَى أَنَّ اَلْحَيَّ كَالنَّارِ اَلسَّاطِعَةِ فِي اَلْحَرَكَةِ وَالِالْتِهَابِ، وَالْمَيِّتُ كَالرَّمَادِ، كَمَا قَالَ لَبِيدٌ:
وَمَا اَلْمَرْءُ إِلَّا كَالشِّهَابِ وَضَوْئِهِ يَحُورُ رَمَادًا بَعْدَ إِذْ هُوَ سَاطِعُ
تَنْبِيهَاتٌ:
اَلْأَوَّلُ - قَالَ
nindex.php?page=showalam&ids=16456اِبْنُ كَثِيرٍ : رُوِيَ عَنْ كَثِيرٍ مِنَ اَلسَّلَفِ أَنَّ هَذِهِ اَلْقَرْيَةَ هِيَ
أَنْطَاكِيَّةُ ، وَأَنَّ هَؤُلَاءِ اَلثَّلَاثَةَ كَانُوا رُسُلًا مِنْ عِنْدِ
اَلْمَسِيحِ عِيسَى عَلَيْهِ اَلسَّلَامُ، كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ
nindex.php?page=showalam&ids=16815قَتَادَةُ وَغَيْرُهُ، وَهُوَ اَلَّذِي لَمْ يُذْكَرُ عَنْ أَحَدٍ مِنْ مُتَأَخِّرِي اَلْمُفَسِّرِينَ، غَيْرُهُ. وَفِي ذَلِكَ نَظَرٌ مِنْ وُجُوهٍ:
أَحَدُهَا - أَنَّ ظَاهِرَ اَلْقِصَّةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَؤُلَاءِ كَانُوا رُسُلَ اَللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، لَا مِنْ جِهَةِ
اَلْمَسِيحِ عَلَيْهِ اَلسَّلَامُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:
nindex.php?page=tafseer&surano=36&ayano=14إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ وَلَوْ كَانَ هَؤُلَاءِ مِنَ اَلْحَوَارِيِّينَ، لَقَالُوا عِبَارَةً تُنَاسِبُ أَنَّهُمْ مِنْ عِنْدِ
اَلْمَسِيحِ عَلَيْهِ اَلسَّلَامُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. ثُمَّ لَوْ كَانُوا رُسُلَ
اَلْمَسِيحِ لَمَا قَالُوا لَهُمْ: إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا.
اَلثَّانِي - أَنَّ أَهْلَ
أَنْطَاكِيَّةَ آمَنُوا بِرُسُلِ
اَلْمَسِيحِ إِلَيْهِمْ، وَكَانُوا أَوَّلَ مَدِينَةٍ آمَنَتْ
بِالْمَسِيحِ ; وَلِهَذَا كَانَتْ عِنْدَ اَلنَّصَارَى إِحْدَى اَلْمَدَائِنِ اَلْأَرْبَعَةِ اَللَّائِي فِيهِنَّ بَطَارِكَةٌ، وَهُنَّ:
اَلْقُدْسُ ; لِأَنَّهَا بَلَدُ
اَلْمَسِيحِ ،
وَأَنْطَاكِيَةُ ; لِأَنَّهَا أَوَّلُ بَلْدَةٍ آمَنْتْ
بِالْمَسِيحِ عَنْ آخِرِ أَهْلِهَا،
وَالْإِسْكَنْدَرِيَّةُ ; لِأَنَّ فِيهَا اِصْطَلَحُوا عَلَى اِتِّخَاذِ اَلْبَطَارِقَةِ وَالْأَسَاقِفَةِ وَالشَّمَامِسَةِ وَالرَّهَابِينَ، ثُمَّ
رُومِيَّةُ ; لِأَنَّهَا مَدِينَةُ اَلْمَلِكِ
قُسْطَنْطِينَ اَلَّذِي نَصَرَ دِينَهُمْ وَأَطَّدَهُ، وَلَمَّا اِبْتَنَى
اَلْقُسْطَنْطِينِيَّةَ نَقَلُوا اَلْبَطْرَكَ مِنْ
[ ص: 5000 ] رُومِيَّةَ إِلَيْهَا - كَمَا ذَكَرَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ مِمَّنْ ذَكَرَ تَوَارِيخَهُمْ -
كَسَعْدِ بْنِ بَطْرِيقَ وَغَيْرِهِ مِنْ أَهْلِ اَلْكِتَابِ وَالْمُسْلِمِينَ - فَإِذَا تَقَرَّرَ أَنَّ
أَنْطَاكِيَةَ أَوَّلُ مَدِينَةٍ آمَنَتْ، فَأَهْلُ هَذِهِ اَلْقَرْيَةِ ذَكَرَ اَللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُمْ كَذَّبُوا رُسُلَهُ، وَأَنَّهُ أَهْلَكَهُمْ بِصَيْحَةٍ وَاحِدَةٍ أَخْمَدَتْهُمْ.
اَلثَّالِثُ - أَنَّ قِصَّةَ
أَنْطَاكِيَّةَ مَعَ اَلْحَوَارِيِّينَ أَصْحَابِ
اَلْمَسِيحِ بَعْدَ نُزُولِ اَلتَّوْرَاةِ، وَقَدْ ذَكَرَ
nindex.php?page=showalam&ids=44أَبُو سَعِيدٍ اَلْخُدْرِيُّ رَضِيَ اَللَّهُ عَنْهُ وَغَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ اَلسَّلَفِ، أَنَّ اَللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى بَعْدَ إِنْزَالِهِ اَلتَّوْرَاةَ، لَمْ يُهْلِكْ أُمَّةً مِنَ اَلْأُمَمِ عَنْ آخِرِهِمْ بِعَذَابٍ يَبْعَثُهُ عَلَيْهِمْ. بَلْ أَمَرَ اَلْمُؤْمِنِينَ بَعْدَ ذَلِكَ بِقِتَالِ اَلْمُشْرِكِينَ، ذَكَرُوهُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى:
nindex.php?page=tafseer&surano=28&ayano=43وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الأُولَى فَعَلَى هَذَا يَتَعَيَّنُ أَنَّ أَهْلَ هَذِهِ اَلْقَرْيَةِ اَلْمَذْكُورَةِ فِي اَلْقُرْآنِ، قَرْيَةٌ أُخْرَى غَيْرُ
أَنْطَاكِيَّةَ ، كَمَا أَطْلَقَ ذَلِكَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ اَلسَّلَفِ أَيْضًا، أَوْ تَكُونُ
أَنْطَاكِيَةُ - إِنْ كَانَ لَفْظُهَا مَحْفُوظًا فِي هَذِهِ اَلْقِصَّةِ - مَدِينَةً أُخْرَى غَيْرَ اَلْمَشْهُورَةِ اَلْمَعْرُوفَةِ; فَإِنَّ هَذِهِ لَمْ يُعْرَفْ أَنَّهَا أُهْلِكَتْ لَا فِي اَلْمِلَّةِ اَلنَّصْرَانِيَّةِ، وَلَا قَبْلَ ذَلِكَ، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ. اِنْتَهَى كَلَامُ اِبْنِ كَثِيرٍ.
وَأَقُولُ: إِنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=28741_28914مِنْ مَحَاسِنِ اَلتَّنْزِيلِ اَلْكَرِيمِ وَبَلَاغَتِهِ اَلْخَارِقَةِ، هُوَ اَلْإِيجَازُ فِي اَلْأَنْبَاءِ اَلَّتِي يَقُصُّهَا ، وَالْإِشَارَةُ مِنْهَا إِلَى رُوحِهَا وَسِرِّهَا، حِرْصًا عَلَى اَلثَّمَرَةِ مِنْ أَوَّلِ اَلْأَمْرِ، وَاقْتِصَارًا عَلَى مَوْضِعِ اَلْفَائِدَةِ، وَبُعْدًا عَنْ مَشْرَبِ اَلْقُصَّاصِ وَالْمُؤَرِّخِينَ; لِأَنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=32016_28901اَلْقَصْدَ مِنْ قَصَصِهِ اَلِاعْتِبَارُ وَالذِّكْرَى ، وَمَا مِنْ حَاجَةٍ إِلَى تَسْمِيَةِ تِلْكَ اَلْمُبْهَمَاتِ كَائِنَةً مَا كَانَتْ، ثُمَّ إِنَّ اَلْمُفَسِّرِينَ رَحِمَهُمُ اَللَّهُ عَنَوْا بِالْبَحْثِ، وَالْأَخْذِ، وَالتَّلَقِّي، فَكَانَ مَنْ سَلَفَ مِنْهُمْ يَرَوْنَ فِيمَا يَرَوْنَ أَنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=29568مِنَ اَلْعِلْمِ تَفْصِيلَ مُجْمِلَاتِ اَلتَّنْزِيلِ وَإِبَانَةَ مُبْهَمَاتِهِ ، حَتَّى جَعَلَ ذَلِكَ فَنًّا بِرَأْسِهِ، وَأَلَّفَ فِيهِ مُؤَلَّفَاتٍ، وَلَا بَأْسَ فِي اَلتَّوَسُّعِ مِنَ اَلْعِلْمِ وَالِازْدِيَادِ مِنْهُ بِأَيِّ طَرِيقَةٍ كَانَتْ، لَاسِيَّمَا وَقَدْ رُفِعَ عَنَّا اَلْحَرَجُ بِالتَّحَدُّثِ عَنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، إِلَّا أَنَّهُ يُؤَاخَذُ مَنْ يَجْزِمُ بِتَعْيِينِ مُبْهَمٍ مَا، إِنْ كَانَ جَزْمُهُ مِنْ غَيْرِ طَرِيقِ اَلْقَوَاطِعِ
[ ص: 5001 ] ; فَإِنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=21425اَلْقَاطِعَ هُوَ مَا تَوَاتَرَ أَوْ صَحَّ سَنَدُهُ إِلَى اَلْمَعْصُومِ، صِحَّةً لَا مَغْمَزَ فِيهَا ، وَهَذَا مَفْقُودٌ فِي اَلْأَكْثَرِ، وَمِنْهُ بَحْثُنَا اَلْمَذْكُورُ; فَإِنَّ تَعْيِينَ أَنَّ اَلْبَلْدَةَ
أَنْطَاكِيَّةُ وَتَسْمِيَةُ اَلرُّسُلِ، إِنَّمَا رُوِيَ مَوْقُوفًا وَمُنْقَطِعًا، وَفِي بَعْضِ إِسْنَادِهِ مُتَّهَمُونَ، وَلِذَا قَدْ يَرِدُ عَلَى مَنْ يَقْطَعُ بِذَلِكَ مَا لَا مَخْرَجَ لَهُ مِنْهُ،
nindex.php?page=treesubj&link=28954_28962فَالْمُفَسِّرُ أَحْسَنُ أَحْوَالِهِ أَنْ يَمْشِيَ مَعَ اَلتَّنْزِيلِ، إِجْمَالًا فِيمَا أَجْمَلَهُ، وَتَفْصِيلًا فِيمَا فَصَّلَهُ ، وَلَا يَأْخُذُ مِنْ إِيضَاحِ مُبْهَمَاتِهِ إِلَّا بِمَا قَامَ عَلَيْهِ قَاطِعٌ أَوْ كَانَ لَا يَنْبِذُهُ اَلْعِلْمُ اَلصَّحِيحُ، وَإِلَّا فَلْيُعْرِضْ عَنْ تَسْوِيدِ وُجُوهِ اَلصُّحُفِ بِذَلِكَ، بَلْ عَنْ تَشْوِيهِهَا.
وَالَّذِي حَمَلَ اَلسُّلَفَ عَلَى قَصِّ مَا نَحْنُ فِيهِ، هُوَ تَلَقِّيهِمْ لَهُ عَنْ مِثْلِ
nindex.php?page=showalam&ids=16850كَعْبٍ nindex.php?page=showalam&ids=17285وَوَهْبٍ ، وَمُوَافَقَةِ مَنْ فِي طَبَقَتِهِمَا لَهُمَا فِيهِ. هَذَا أَوَّلًا.
وَثَانِيًا شُهْرَةُ بَلْدَةِ
أَنْطَاكِيَّةَ فِي ذَلِكَ اَلْعَهْدِ، لَا سِيَّمَا وَقَدْ أَسَّسَ فِيهَا مَعْبَدًا أَحَدُ رُسُلِ
عِيسَى عَلَيْهِ اَلسَّلَامُ.
ثَالِثًا مَا جَرَى فِي
أَنْطَاكِيَةَ لَمَّا قَدِمَ مَلِكُ اَلرُّومَانِ، وَتَهَدَّدَ كُلَّ مَنْ أَبَى عِبَادَةَ اَلْأَوْثَانِ بِالْقَتْلِ، وَكَانَ فِي مُقَدِّمَةِ اَلْآبِينَ رَجُلٌ مُقَدَّمٌ فِي اَلْمُؤْمِنِينَ، فَأَرَادَهُ عَلَى اَلشِّرْكِ فَأَبَى وَجَهَرَ بِالتَّوْحِيدِ، فَأَرْسَلَهُ مِنْ
أَنْطَاكِيَةَ مُوثَقًا وَأَمَرَ بِأَنْ يُطْعَمَ لِلْوُحُوشِ، فَأُلْقِيَ فِي
رُومِيَّةَ إِلَى أَسَدَيْنِ كَبِيرَيْنِ فَابْتَلَعَاهُ، وَلَمَّا قُدِّمَ لَهُمَا اِسْتَبْشَرَ وَتَهَلَّلَ لِنَيْلِ اَلشَّهَادَةِ فِي سَبِيلِ اَللَّهِ.
وَكَذَلِكَ يُؤْثَرُ عَنْ رَجُلٍ مُؤْمِنٍ كَانَ يُدَافِعُ عَنِ اَلْمُؤْمِنِينَ فِي عَهْدِ اَلرُّومَانِيِّينَ لِغَيْرَتِهِ وَصَلَاحِهِ، فَطَلَبَ مِنْهُ اَلْحَاكِمُ أَنْ يَرْتَدَّ فَأَبَى وَجَهَرَ بِوُجُوبِ عِبَادَةِ اَلْإِلَهِ اَلْوَاحِدِ، وَنَبْذِ عِبَادَةِ مَنْ لَا يَضُرُّ وَلَا يَنْفَعُ. فَهَدَّدَهُ بِأَنْ يَضْرِبَهُ مِنَ اَلرَّأْسِ إِلَى اَلْقَدَمِ. فَأَجَابَ بِأَنَّهُ مُسْتَبْشِرٌ بِنِعْمَةِ اَللَّهِ وَكَرَامَتِهِ اَلْأَبَدِيَّةِ. ثُمَّ أَمَرَ بِهِ اَلْحَاكِمُ فَقُتِلَ مَعَ رُفْقَتِهِ، وَالشَّوَاهِدُ فِي هَذَا اَلْبَابِ لَا تُحْصَى، مَعْرُوفَةٌ لِمَنْ أَعَارَ نَظَرَهُ جَانِبًا مِمَّا كُتِبَ فِي تَوَارِيخِ مَبْدَأِ ظُهُورِ اَلْأَدْيَانِ، وَمَا كَانَ يُلَاقِيهِ مِنْ أَعْدَائِهِ وَمُقَاوِمِيهِ، فَلِلْقِصَّةِ اَلْكَرِيمَةِ هَذِهِ مُصَدِّقَاتٌ لَا تُحْصَى.
رَابِعًا شُهْرَةُ اَلْمُرْسَلِينَ بِرُسُلِ
عِيسَى عَلَيْهِ اَلسَّلَامُ، وَكَانُوا اِنْبَثُّوا فِي اَلْبِلَادِ لِمَحْوِ اَلْوَثَنِيَّةِ، وَالْكَفِّ عَنِ اَلْكَبَائِرِ وَالشُّرُورِ اَلَّتِي كَانَتْ عَلَيْهَا دَوْلَةُ اَلرُّومَانِ وَقْتَئِذٍ. هَذَا وَمَا ذَكَرَهُ
nindex.php?page=showalam&ids=16456اِبْنُ كَثِيرٍ مِنْ وُقُوفِ عَذَابِ اَلِاسْتِئْصَالِ بَعْدَ نُزُولِ اَلتَّوْرَاةِ يَحْتَاجُ إِلَى قَاطِعٍ. وَإِلَّا، فَقَدْ خُرِّبَتْ كَثِيرٌ مِنَ اَلْبِلَادِ اَلْأَثِيمَةِ بَعْدَهَا، وَتَدَمَّرَتْ بِتَسْلِيطِ اَللَّهِ مَنْ شَاءَ عَلَيْهَا، وَالصَّيْحَةُ
[ ص: 5002 ] أَعَمُّ مِنْ أَنْ تَكُونَ صَيْحَةً سَمَاوِيَّةً، أَوْ صَيْحَةً أَرْضِيَّةً، وَهِيَ صَيْحَةُ مَنْ سُلِّطَ عَلَيْهِمْ لِلِانْتِقَامِ مِنْهُمْ، حَتَّى أَبَادَ مُلْكَهُمْ وَقَهَرَ صَوْلَتَهُمْ وَمَحَا مِنَ اَلْوُجُودِ سُلْطَانَهُمْ، وَإِنْ كَانَ عَذَابُ اَلصَّيْحَةِ ظَاهِرُهُ اَلْأَوَّلُ.
وَبِالْجُمْلَةِ فَنَحْنُ يَكْفِينَا مِنَ اَلنَّبَأِ اَلِاعْتِبَارُ بِهِ وَفَهْمُهُ مُجْمَلًا ، وَأَمَّا تَعْيِينُهُ بِوَقْتٍ مَا، وَفِئَةٍ مَا، فَهُوَ اَلَّذِي يَنْشَأُ مِنْهُ مَا يَنْشَأُ، وَمَا بِنَا مِنْ حَاجَةٍ إِلَى اَلزِّيَادَةِ عَنِ اَلِاعْتِبَارِ، وَتَخْصِيصِ مَا لَا قَاطِعَ عَلَيْهِ.
الثَّانِي - ذَكَرَ
اَلرَّازِيُّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:
nindex.php?page=tafseer&surano=36&ayano=14إِذْ أَرْسَلْنَا لَطِيفَةً، إِنْ صَحَّ أَنَّ اَلرُّسُلَ اَلْمُنَوَّهَ بِهِمْ هُمْ رُسُلُ
عِيسَى عَلَيْهِ اَلسَّلَامُ، وَهِيَ أَنَّ إِرْسَالَهُ لَهُمْ كَإِرْسَالِهِ تَعَالَى; لِأَنَّهُ بِإِذْنِهِ وَأَمْرِهِ، وَبِذَلِكَ تَتِمَّةُ اَلتَّسْلِيَةِ لِلنَّبِيِّ صَلَوَاتُ اَللَّهِ عَلَيْهِ، لِصَيْرُورَتِهِمْ فِي حُكْمِ اَلرُّسُلِ.
ثُمَّ قَالَ: وَهَذَا يُؤَيِّدُ مَسْأَلَةً فِقْهِيَّةً; وَهِيَ أَنَّ وَكِيلَ اَلْوَكِيلِ بِإِذْنِ اَلْمُوَكِّلِ، وَكِيلُ اَلْمُوَكِّلِ لَا وَكِيلَ اَلْوَكِيلَ، حَتَّى لَا يَنْعَزِلَ بِعَزْلِ اَلْوَكِيلِ إِيَّاهُ، وَيَنْعَزِلُ إِذَا عَزَلَهُ اَلْمُوَكِّلُ اَلْأَوَّلُ. اِنْتَهَى.
الثَّالِثُ - فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:
nindex.php?page=tafseer&surano=36&ayano=20وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى تَبْصِرَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَهِدَايَةٌ لَهُمْ لِيَكُونُوا فِي اَلنُّصْحِ بَاذِلِينَ جُهْدَهُمْ كَمَا فَعَلَ.