القول في تأويل قوله تعالى:
[ 16] يوم نبطش البطشة الكبرى إنا منتقمون .
يوم نبطش البطشة الكبرى إنا منتقمون فسر ذلك رضي الله عنه بيوم ابن مسعود بدر . وهذا قول جماعة ممن وافق رضي الله عنه على تفسيره الدخان بما تقدم، وروي أيضا عن ابن مسعود رضي الله عنهما، من رواية ابن عباس العوفي عنه. وعن رضي الله عنه، وجماعة عنه، وهو محتمل. والظاهر أن ذلك يوم القيامة، وإن كان يوم أبي بن كعب بدر يوم بطشة أيضا.
قال : حدثني ابن جرير يعقوب . حدثنا ابن علية . حدثنا خالد الحذاء عن قال: قال عكرمة رضي الله عنهما: قال ابن عباس رضي الله عنه: البطشة الكبرى يوم ابن مسعود بدر . وأنا أقول هي يوم القيامة . وهذا إسناد صحيح عنه. وبه يقول ، الحسن البصري في أصح الروايتين عنه. والله أعلم. انتهى كلام وعكرمة . ابن كثير
فصل:
وممن رجح الوجه الأول، وهو أن يوم المجاعة والشدة مجازا، بذكر المسبب وإرادة السبب. أو بالاستعارة، العلامة المراد بالدخان أبو السعود حيث قال: والأول هو الذي يستدعيه [ ص: 5302 ] مساق النظم الكريم قطعا؛ فإن قوله تعالى: أنى لهم الذكرى إلخ، رد لكلامهم، واستدعائهم الكشف، وتكذيب لهم في الوعد بالإيمان، المنبئ عن التذكر والاتعاظ بما اعتراهم من الداهية، أي: كيف يتذكرون؟ أو من أين يتذكرون بذلك ويفون بما وعدوه من الإيمان عند كشف العذاب عنهم؟ وقد جاءهم رسول مبين أي: والحال أنهم شاهدوا من دواعي التذكر، وموجبات الاتعاظ ما هو أعظم منه في إيجابها. حيث جاءهم رسول عظيم الشأن، وبين لهم مناهج الحق، بإظهار آيات ظاهرة ومعجزات قاهرة، تخر لها صم الجبال.
ثم تولوا عنه عن ذلك الرسول وهو هو، ريثما يشاهدون منه ما شاهدوه من العظائم الموجبة للإقبال عليه، ولم يقتنعوا بالتولي. وقالوا في حقه: معلم مجنون أي: قالوا تارة: يعلمه غلام أعجمي لبعض ثقيف . وأخرى مجنون، أو يقول بعضهم كذا وآخرون كذا. فهل يتوقع من قوم هذه صفاتهم أن يتأثروا بالعظة والتذكير؟ وما مثلهم إلا كمثل الكلب إذا جاع ضعف، وإذا شبع طغى.
وقوله تعالى: إنا كاشفو العذاب قليلا إنكم عائدون جواب من جهته تعالى عن قولهم: ربنا اكشف عنا العذاب إنا مؤمنون بطريق الالتفات، لمزيد التوبيخ والتهديد، وما بينهما اعتراض. أي:: إنا نكشف العذاب المعهود عنكم كشفا قليلا، أو زمانا قليلا. إنكم تعودون إثر ذلك إلى ما كنتم عليه من العتو، والإصرار على الكفر، وتنسون هذه الحالة، وفائدة التقييد بقوله: { قليلا } الدلالة على زيادة خبثهم; لأنهم إذا عادوا قبل تمام الانكشاف، كانوا بعده أسرع إلى العود. وصيغة الفاعل في الفعلين، للدلالة على تحققهما لا محالة، ولقد وقع كلاهما حيث كشفه الله تعالى، بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم فما لبثوا أن عادوا إلى ما كانوا عليه من العتو والعناد. انتهى ما قاله أبو السعود بزيادة.
فصل:
وأما الوجه الثالث في الآية، قال : حدثنا أبي حدثنا ابن أبي حاتم جعفر بن مسافر . [ ص: 5303 ] حدثنا . حدثنا يحيى بن حسان ابن مهيعة . حدثنا في قوله عز وجل: عبد الرحمن الأعرج يوم تأتي السماء بدخان مبين قال: كان يوم فتح مكة . قال : وهذا القول غريب جدا. بل منكر. انتهى. ابن كثير
أي: لأنه لم يرو مرفوعا ولا موقوفا على ، ترجمان القرآن، أو غيره من الصحب، إلا أن عدم كونه مأثورا لا ينافي احتمال لفظ الآية له، وصدقها عليه، لاسيما، ويؤيده قوله تعالى في آخر السورة: ابن عباس فارتقب إنهم مرتقبون مما هو وعد بظهوره عليهم، وكان ذلك يوم الفتح. وحينئذ، فمعنى قوله تعالى: إنا كاشفو العذاب أي: ما ينزل بهم يومئذ، برفع القتل والأسر عنهم. ومعنى: عائدون أي: إلى لقاء الله ومجازاته.
فصل:
يظهر مما نقلناه عن السلف في هذه الآية من الأقوال الثلاثة، أن هذه الآية من الآي اللاتي أخذت من الصحب، عليهم الرضوان، اهتماما في معناها، وعناية في البحث عن المراد منها. حتى كان مصرا على وجه، ابن مسعود وعلي وابن عباس على وجه آخر. على ما أسند عنهم من طرق، وحذيفة الحق! إن هذه الآية لجديرة بزيادة العناية. وهكذا كل ما كان من معارك الأنظار للأئمة الكبار. وسبب الاختلاف هو إيجاز الأسلوب الكريم، وإيثاره من الألفاظ أرقها، وأوجزها. مما يصدق لبلاغته حقيقة تارة ومجازا أخرى. هذا أولا. ولعمر
وثانيا: لما كان كثير من الأحاديث المروية تتشابه مع الآيات، كان ذلك مما يقرب بينهما، ويدعو إلى اتحاد المراد منهما. لما تقرر من شرح السنة للكتاب، وهذا ما درج عليه المحدثون قاطبة. فترى أحدهم إذا رأى في خبر ما يشير إلى آية، قطع بأنه تفسيرها ووقف عنده ولم يتعده. وأما من فتح للتدبر بابا، ومهد للنظر مجالا، ورأى أن الأثر قد يكون من محمولات الآية وما صدقاتها، وأنها أعم وأشمل، أو إن حمل الخبر عليها اشتباه أفضى إليه التشابه، [ ص: 5304 ] فذاك وسع للسالك المسالك، وفتح للمريد المدارك، ورقاه من حظيرة النقل إلى فضاء العقل. ولكل وجهة.
إذا علمت ذلك، رأيت أن من فسر هذه الآية بالمجاعة التي حصلت لقريش ، أمكنه تطبيق الآية عليها مجازا في بعض مفرداتها، وحقيقة في بقيتها وفي وقوع مصداقها، في رأيه. ومن فسرها بالدخان المنتظر، المروي من أشراط الساعة، وقف مع المروي ورأى أنه تفسيرها; لأن الأصل التوافق والحمل على المعهود; لأنه الأقرب خطورا والأسبق حضورا، ومن فسرها بالظهور عليهم يوم الفتح، رأى أنها من بليغ المجاز وبديع الكناية في ذلك، وأن الوعد بالارتقاب. كثر أشباهه ونظائره في غير ما آية، مرادا به الفتح. كآية: ويقولون متى هذا الفتح إن كنتم صادقين قل يوم الفتح لا ينفع الذين كفروا إيمانهم ولا هم ينظرون فأعرض عنهم وانتظر إنهم منتظرون
فهذا وأمثاله يبين مآخذ الأئمة، ومداركهم في التأويل. وبه يعلم أن أطراف المدارك قد تتجاذب اللفظ فتستوقف الرأي عن التشيع لمدرك دون آخر. ما لم يكن ثمة ما يرشح أحدها وقد يظن الواقف على كلام الرازي المتقدم، واحتجاجه للوجه الثاني بما أطال به، أن لا منتدح، بعد، عنه. مع أن للذاهب إلى غيره أن يجيب عن احتجاجه بما أسلفنا من صحة المجاز. بل وقوته هنا; لأن المقام مقام إنذار وإيعاد، والذوق أكبر حاكم وإليه مرد البلاغة. ولا يلزم المتأول نكرانه للدخان المنتظر كما قد يتوهم. بل يتعرف بأنه آية آتية يوم تبدل الأرض غير الأرض والسماوات، وينقلب هذا النظام إلى نشأة ثانية، وأنه لا يلزم من الاشتراك اللفظي اتحاد المتلو والمروي.
وبالجملة، فاللفظ الكريم يتناول المعاني الثلاثة. وسببه تحقق مصداق الجميع. وأما تعيين واحد منها للمراد، فصعب جدا فيما أراه، لاسيما ولم يتفق الصحب على رأي فيها. هذا ما نقوله الآن. والله العليم. وقوله تعالى: