[ 37] أهم خير أم قوم تبع والذين من قبلهم أهلكناهم إنهم كانوا مجرمين .
أهم خير أي: في القوة والمنعة: أم قوم تبع والذين من قبلهم أهلكناهم إنهم كانوا مجرمين أي: أهلكناهم بجرمهم، وهو كفرهم وفسادهم. وهم ما هم. فما بال قريش لا تخاف أن يصيبها ما أصابهم؟ وقوم تبع هم حمير وأهل سبأ . أهلكهم الله عز وجل وفرقهم في البلاد شذر مذر. كما تقدم في سورة [ سبأ] . قال : وقد كانوا عربا من ابن كثير قحطان . كما أن هؤلاء عرب من عدنان ، وكانت حمير كلما ملك فيهم رجل سموه تبعا. كما يقال: (كسرى) ، لمن ملك الفرس . و(قيصر) ، لمن ملك الروم . و(فرعون) ، لمن ملك مصر كافرا. و(النجاشي) ، لمن ملك الحبشة ، وغير ذلك من أعلام الأجناس.
لكن اتفق أن بعض تبابعتهم خرج من اليمن ، وسار في البلاد حتى وصل إلى سمرقند ، واشتد ملكه، وعظم سلطانه وجيشه، واتسعت مملكته، وبلاده، وكثرت رعاياه، وهو الذي مصر الحيرة ، فاتفق أنه مر بالمدينة النبوية ، وذلك في أيام الجاهلية، فأراد قتال أهلها فمانعوه، وقاتلوه بالنهار، وجعلوا يقرونه بالليل. فاستحيا منهم وكف عنهم، واستصحب معه حبرين من أحبار يهود ، كانا قد نصحاه، وأخبراه أن لا سبيل له على هذه البلدة. فإنها مهاجر نبي يكون في آخر الزمان. فرجع عنها، وأخذهما معه إلى بلاد اليمن . فلما اجتاز بمكة أراد هدم الكعبة . فنهياه عن ذلك أيضا. وأخبراه بعظمة [ ص: 5311 ] هذا البيت، وأنه من بناء إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام، وأنه سيكون له شأن عظيم على يدي ذلك النبي المبعوث في آخر الزمان، فعظمها وطاف بها، وكساها الملاء والوصائل والحبر. ثم كر راجعا إلى اليمن ، ودعا أهلها إلى التهود معه. وكان إذ ذاك دين موسى عليه الصلاة والسلام، فيه من يكون على الهداية قبل بعثة المسيح عليه الصلاة والسلام. فتهود معه عامة أهل اليمن .
وقد ذكر القصة بطولها في كتابه: (السيرة). وترجمه الإمام محمد بن إسحاق في (تاريخه) ترجمة حافلة، وذكر أنه ملك الحافظ ابن عساكر دمشق . وساق ما روي في النهي عن سبه ولعنه. قال : وكأنه، والله أعلم. كان كافرا ثم أسلم، وتابع دين ابن كثير الكليم على يدي من كان من أحبار اليهود في ذلك الزمان على الحق قبل بعثة المسيح عليه السلام، وحج البيت في زمن الجرهميين وكساه الملاء، والوصائل من الحرير والحبر، ونحر عنده ستة آلاف بدنة، وعظمه وأكرمه، ثم عاد إلى اليمن ، وقد ساق قصته بطولها من طرق متعددة مطولة مبسوطة، عن الحافظ ابن عساكر ، أبي بن كعب ، وعبد الله بن سلام ، رضي الله عنهم، وعبد الله بن عباس ، وإليه المرجع في ذلك كله، وإلى وكعب الأحبار أيضا، وهو أثبت وأكبر وأعلم. وكذا روى قصته عبد الله بن سلام ، وهب بن منبه في (السيرة) كما هو مشهور فيها. وقد اختلط على ومحمد بن إسحاق في بعض السياقات، ترجمة تبع هذا، بترجمة آخر متأخر عنه بدهر طويل; فإن الحافظ ابن عساكر تبعا هذا المشار إليه في القرآن أسلم قومه على يديه، ثم لما توفي عادوا بعده إلى عبادة الثيران والأصنام، فعاقبهم الله تعالى، كما ذكره في سورة سبأ.
وتبع هذا هو تبع الأوسط. واسمه أسعد أبو كرب . ولم يكن في حمير أطول مدة منه. وتوفي قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم بنحو من سبعمائة سنة، وذكروا أنه لما ذكر له الحبران من يهود المدينة ، أن هذه البلدة مهاجر نبي في آخر الزمان اسمه أحمد ، قال في ذلك شعرا، واستودعه عند أهل المدينة . فكانوا يتوارثونه ويروونه خلفا عن سلف، وكان ممن يحفظه ، الذي نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم في داره، وهو: أبو أيوب خالد بن زيد الأنصاري
[ ص: 5312 ]
شهدت على أحمد أنه رسول من الله باري النسم
فلو مد عمري إلى عمره
لكنت وزيرا له وابن عم
وجاهدت بالسيف أعداءه
وفرجت عن صدره كل غم
ثم ساق آثارا في النهي عن سبه، وبالجملة فإن قصته المذكورة، والمروي في شأنه، وإن لم يكن سنده على شرط الصحيح، إلا إن ذلك مما يتحمل التوسع فيه، لكونه نبأ محضا مجردا عن حكم شرعي. نعم، لا يشك أن ابن كثير قريشا كانت تعلم من فخامة نبئه المروي لها بالتواتر، ما فيه أكبر موعظة لها، ولذا طوى نبأه، إحالة على ما تعرفه من أمره، وما تسمر به من شأنه. وما القصد إلا العظة والاعتبار، لا قص ذلك خبرا من الأخبار، وسمرا من الأسمار، كما هو السر في أمثال نبئه. وبالله التوفيق.