القول في تأويل قوله تعالى:
[35 - 36] يرسل عليكما شواظ من نار ونحاس فلا تنتصران فبأي آلاء ربكما تكذبان
يرسل عليكما شواظ أي: من لهب من نار ونحاس أي: صفر مذاب يصب [ ص: 5625 ] على رؤوسهم فلا تنتصران أي: تمتنعان وتنقذان منه. يعني: إذا أصررتما على الكفر والطغيان وعصيان الرسول، فما أمامكم في الآخرة إلا هذا العذاب الأليم.
وقد ذهب إلى أن هذه الآية وما قبلها، مما يخاطب به الكفرة في الآخرة، وعبارته: هذا في مقام الحشر، والملائكة محدقة بالخلائق، فلا يقدر أحد على الذهاب ابن كثير إلا بسلطان أي: بأمر الله، يقول الإنسان يومئذ أين المفر كلا لا وزر إلى ربك يومئذ المستقر وقال تعالى:
والذين كسبوا السيئات جزاء سيئة بمثلها وترهقهم ذلة ما لهم من الله من عاصم كأنما أغشيت وجوههم قطعا من الليل مظلما أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون ولهذا قال تعالى: يرسل عليكما شواظ من نار ونحاس فلا تنتصران والمعنى لو ذهبتم هاربين يوم القيامة، لردتكم الملائكة والزبانية بإرسال اللهب من النار والنحاس المذاب عليكم لترجعوا. انتهى.
ثم رأيت قد سبقه إلى ذلك الإمام ابن القيم رحمه الله، فقد قال رحمه الله في أواخر كتابه (طريق الهجرتين) في تفسير هذه الآية، بعد أن ذكر نحو ما قدمنا من الوجهين في تأويل قوله تعالى إن استطعتم أن تنفذوا ما مثاله:
وفي الآية تقرير آخر، وهو أن يكون هذا الخطاب في الآخرة، إذا أحاطت الملائكة بأقطار الأرض، وأحاط سرادق النار بالآفاق، فهرب الخلائق، فلا يجدون مهربا ولا منفذا، كما قال تعالى: ويا قوم إني أخاف عليكم يوم التناد يوم تولون مدبرين قال : فارين غير معجزين. وقال مجاهد : إذا سمعوا زفير النار ندوا هربا، فلا يأتون قطرا من الأقطار إلا وجدوا الملائكة صفوفا، فيرجعون إلى المكان الذي كانوا فيه، فذلك [ ص: 5626 ] قوله: الضحاك والملك على أرجائها وقوله: يا معشر الجن والإنس الآية. وهذا القول أظهر -والله أعلم- فإذا بدت الخلائق ولوا مدبرين، يقال لهم: إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السماوات والأرض أي: إن قدرتم أن تتجاوزوا أقطار السماوات والأرض فتعجزوا ربكم حتى لا يقدر على عذابكم، فافعلوا. وكأن ما قبل هذه الآية وما بعدها يدل على هذا القول، فإن قبلها سنفرغ لكم الآية، وهذا في الآخرة، وبعدها: فإذا انشقت السماء الآية، وهذا في الآخرة وأيضا فإن هذا خطاب لجميع الإنس والجن فإنه أتى به بصيغة العموم، وهي قوله: يا معشر الجن والإنس فلا بد أن يشترك الكل في سماع هذا الخطاب ومضمونه، وهذا إنما يكون إذا جمعهم الله في صعيد واحد، يسمعهم الداعي، وينفذهم البصر. وقال تعالى: إن استطعتم ولم يقل: إن استطعتما، لإرادة الجماعة، كما في آية أخرى: يا معشر الجن والإنس ألم يأتكم وقال:
يرسل عليكما ولم يقل: يرسل عليكم، لإرادة الصنفين، أي: لا يختص به صنف عن صنف، بل يرسل ذلك على الصنفين معا. وهذا، وإن كان مرادا بقوله: إن استطعتم فخطاب الجماعة في ذلك بلفظ الجمع أحسن، أي: من استطاع منكم. وحسن الخطاب بالتثنية في قوله: عليكما أمر آخر، وهو موافقة رؤوس الآي، فاتصلت التثنية بالتثنية. وفيه التسوية بين الصنفين في العذاب بالتنصيص عليهما، فلا يحتمل اللفظ إرادة أحدهما -والله أعلم- انتهى كلام ابن القيم .
وأنت ترى أن لا قرينة تخصص الآية بالقيامة، وما استشهد به من الآيات لا يؤيده، لأنه ليس من نظائره. فالوجه ما ذكرناه.
[ ص: 5627 ] فبأي آلاء ربكما تكذبان قال القاضي: فإن التهديد لطف، والتمييز بين المطيع والعاصي بالجزاء والانتقام من الكفار، من عداد الآلاء.