القول في تأويل قوله تعالى:
[86 - 96] فلولا إن كنتم غير مدينين ترجعونها إن كنتم صادقين [ ص: 5667 ] فأما إن كان من المقربين فروح وريحان وجنت نعيم وأما إن كان من أصحاب اليمين فسلام لك من أصحاب اليمين وأما إن كان من المكذبين الضالين فنـزل من حميم وتصلية جحيم إن هذا لهو حق اليقين فسبح باسم ربك العظيم
فلولا إن كنتم غير مدينين أي: غير مجزيين يوم القيامة. أو مملوكين مقهورين. من دانه أذله واستعبده. ترجعونها أي: تردون النفس إلى مقرها عند بلوغها الحلقوم إن كنتم صادقين أي: في أنكم غير مسوسين، مربوبين مقهورين.
يعني: أنكم مجبرون عاجزون تحت قهر الربوبية، وإلا لأمكنكم دفع ما تكرهون أشد الكراهية، وهو الموت فأما إن كان أي: الميت من المقربين أي: السابقين من الأصناف الثلاثة المذكورة في أول السورة.
فروح أي: فله راحة وريحان أي: رزق طيب، أو شجر ناضر يتفيأ ظلاله وجنت نعيم أي: يتنعم فيها مما تشتهيه الأنفس، وتلذ الأعين.
وأما إن كان من أصحاب اليمين فسلام لك من أصحاب اليمين قال : أي: تبشرهم الملائكة بذلك تقول لأحدهم: سلام لك، أي: لا بأس عليك أنت في سلامة، أنت من أصحاب اليمين. ابن كثير
[ ص: 5668 ] وقال قتادة وابن زيد : سلم من عذاب الله، وسلمت عليه ملائكة الله، كما قال : تسلم عليه الملائكة، وتخبره أنه من أصحاب اليمين. وهذا معنى حسن. ويكون ذلك كقول الله تعالى: عكرمة إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنـزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون الآيات. . انتهى.
وقال الرازي: في السلام وجوه:
أولها: يسلم به صاحب اليمين على صاحب اليمين كما قال تعالى من قبل: لا يسمعون فيها لغوا ولا تأثيما إلا قيلا سلاما سلاما
ثانيها: فسلام لك أي: سلامة لك من أمر خاف قلبك منه؛ فإنه في أعلى المراتب، وهذا كما يقال لمن تعلق قلبه بولده الغائب عنه، إذا كان يخدم عند كريم: كن فارغا من جانب ولدك؛ فإنه في راحة.
ثالثها: أن هذه الجملة تفيد عظمة حالهم، كما يقال: فلان ناهيك به، وحسبك أنه فلان. إشارة إلى أنه ممدوح فوق حد الفضل. انتهى.
ثم قال الرازي: والخطاب بقوله: " لك " يحتمل أن يكون للنبي صلى الله عليه وسلم، وحينئذ فيه وجه، وهو ما ذكرنا أن ذلك تسلية لقلب النبي صلى الله عليه وسلم، فإنهم غير محتاجين إلى شيء من الشفاعة وغيرها; فسلام لك يا محمد منهم، فإنهم في سلامة وعافية، لا يهمك أمرهم، أو فسلام لك يا محمد منهم، وكونهم ممن يسلم على محمد صلى الله عليه وسلم دليل العظمة؛ فإن العظيم لا يسلم عليه إلا عظيم. انتهى.
وأما إن كان من المكذبين أي: بآيات الله الضالين أي: الجائرين عن سبيله.
فنـزل من حميم أي: ماء انتهى حره، فهو شرابه.
وتصلية جحيم أي: إحراق بالنار.
إن هذا أي: المذكور من أحوال الفرق الثلاثة وعواقبهم لهو حق اليقين [ ص: 5669 ] أي: حقيقة الأمر، وجلية الحال، لا لبس فيه ولا ارتياب. والإضافة إما من إضافة الموصوف إلى الصفة، أي: الحق اليقين: كما يقال: دار الآخرة، أو بالعكس، أي: اليقين الحق. أو من إضافة العام للخاص، أي: كعلم الأمر اليقين. فالإضافة حينئذ لامية، أو بمعنى من.
تنبيه:
في "الإكليل": استدل بالآيات هذه على أن وعلى أن الروح بعد مفارقة البدن منعمة أو معذبة، مقر أرواح المؤمنين في الجنة، وأرواح الكافرين في النار.
فسبح باسم ربك العظيم أي: نزهه عما يصفونه به من الأباطيل، وما يتفوهون به من الأضاليل، قولا وعملا.