القول في تأويل قوله تعالى:
[26 - 27] ولقد أرسلنا نوحا وإبراهيم وجعلنا في ذريتهما النبوة والكتاب فمنهم مهتد وكثير منهم فاسقون ثم قفينا على آثارهم برسلنا وقفينا بعيسى ابن مريم وآتيناه الإنجيل وجعلنا في قلوب الذين اتبعوه رأفة ورحمة ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم إلا ابتغاء رضوان الله فما رعوها حق رعايتها فآتينا الذين آمنوا منهم أجرهم وكثير منهم فاسقون
ولقد أرسلنا نوحا وإبراهيم وجعلنا في ذريتهما النبوة والكتاب فمنهم أي: من الذرية مهتد وكثير منهم فاسقون أي: خارجون عن طاعته بترك نصوص كتبه وتحريفها، وإيثار آراء الأحبار والرهبان عليها، واجترام ما نهوا عنه؛ ثم قفينا أي: أتبعنا على آثارهم برسلنا وقفينا بعيسى ابن مريم وآتيناه الإنجيل وجعلنا في قلوب الذين اتبعوه رأفة ورحمة أي: حنانا ورقة على الخلق لكثرة ما وصى به عيسى عليه السلام، من الشفقة وهضم النفس والمحبة، وكان في عهده أمتان عظيمتا القسوة والشدة: اليهود والرومان، وهؤلاء أشد قسوة، وأعظم بطشا، لا سيما في العقوبات، فقد كان لهم أفانين في تعذيب النوع البشري بها، ومنها تسليط الوحوش المفترسة عليه، وتربيتها لذلك، مما جاءت البعثة المسيحية على أثرها، وجاهدت في مطاردتها، وصبرت على منازلتها، حتى ظهرت عليها بتأييده تعالى ونصره - كما بينه آخر سورة الصف - ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم أي: ما فرضناها عليهم، وإنما هم التزموها من عند أنفسهم.
إلا ابتغاء رضوان الله استثناء منقطع، أي: ولكنهم ابتدعوها طلب مرضاة الله عنهم.
فما رعوها حق رعايتها أي: ما قاموا بما التزموه منها حق القيام من التزهد، والتخلي [ ص: 5698 ] للعبادة وعلم الكتاب، بل اتخذوها آلة للترؤس والسؤدد وإخضاع الشعب لأهوائهم.
فآتينا الذين آمنوا منهم أجرهم يعني الذين آمنوا الإيمان الخالص عن شوائب الشرك والابتداع، ومنه الإيمان بمحمد صلوات الله عليه، المبشر به عندهم.
وكثير منهم فاسقون أي: خارجون عن مواجب الإيمان ومقاصده.
تنبيهات:
الأول: هي المبالغة في العبادة والرياضة، والانقطاع عن الناس، وإيثار العزلة والتبتل، وأصلها الفعلة المنسوبة إلى الرهبان، وهو الخائف، فعلان، من رهب، كخشيان من خشي. الرهبانية
الثاني: قال في قوله تعالى: ابن كثير
فما رعوها حق رعايتها ذم لهم من وجهين:
أحدهما: في الابتداع في دين الله ما لم يأمر به الله.
والثاني: في عدم قيامهم بما التزموه مما زعموا أنه قربة يقربهم إلى الله عز وجل.
الثالث: رأيت في كثير من مؤلفات علماء المسيحيين المتأخرين ذم بدعة الرهبنة وما كان لتأثيرها في النفوس والأخلاق من المفاسد والأضرار، فقد قال صاحب "ريحانة النفوس" منهم، في الباب السابع عشر، في الرهبنة:
إن الرهبنة قد نشأت من التوهم بأن الانفراد عن معاشرة الناس، واستعمال التقشفات والتأملات الدينية، هي ذات شأن عظيم، ولكن لا يوجد سند لهذا الوهم في الكتب المقدسة لأن مثال المسيح، ومثال رسله يضادانه باستقامة؛ فإنهم لم يعتزلوا عن الاختلاط بالناس، لكي يعيشوا بالانفراد، بل إنما كانوا دائما مختلطين بالعالم، يعلمون وينصحون. ونحن نقول بكل جراءة: إنه لا يوجد في جميع الكتاب المقدس مثال للرهبنة، ولا يوجد أمر من أوامره يلزم بها، بل العكس؛ فإن روح الكتاب وفحواه يضاد كل دعوى مبنية على العيشة المنفردة المقرونة بالتقشفات، ولكن مع أن الكتاب المقدس لا يمدح العيشة الانفرادية، فقد [ ص: 5699 ] ظهر الميل الشديد إليها في الكنيسة، في أواخر الجيل الثاني وأوائل الجيل الثالث، وأيد بعض الباحثين المقاومين لها وقتئذ، أنها عادة سرت للمسيحيين من الهنود الوثنيين السمانيين؛ فإن لهم أنواعا كثيرة من عبادات تأمر كهنتها بالبتولية والامتناع عن أكل اللحم وأمورا أخرى مقرونة بخرافات.
ثم قال: ومع أن الرهبنة حصل عليها مقاومة من العقلاء، امتدت وانتشرت في المسكونة، وكان ابتداؤها فيمصر في الجيل الرابع، على أثر اشتهار أحد الرهبان وممارسته التقشفات، بسبب الاضطهاد الذي أصابه، وآثر لأجله الطواف في البراري، فرارا من أيادي مضطهديه، ثم عكف على الوحدة وعاش بها، وذلك في الجيل الثالث. ثم امتدت من مصر إلى فلسطين وسورية إلى أكثر الجهات; توهما بأن رسم المسيحية الكاملة لا يوجد إلا في المعيشة الضيقة القشفة، فدعا ذلك كثيرين إلى ترك المعيشة المألوفة بالاعتزال في الأديرة مع أن ذلك الوهم باطل، ومضاد للكتب المقدسة، ولما كثر عدد الرهبان كثرة هائلة، ونجم عن حالهم أضرار عظيمة للمجتمع، أصدر كثير من الملوك أوامر بمنع هذه العادة، إلا أنها لم تنجح كثيرا.
وأما بدعة فنشأت من حض العزوبة والتبتل، بولس عليها، وترغيبهم فيها، كما أفصح عنه كلامه في آخر الفصل السابع من رسالته الأولى.
وقد قال صاحب "ريحانة النفوس" أيضا: إن هذه العادة لا يوجد لها برهان في الكتاب المقدس، وإنما دخلت بالتدريج، لما خامرهم من توهم أفضلية البتولية، وظنهم أنها أزكى من الزواج، ومدح من جاء على أثرهم لها مدحا بالغا النهاية في الإطراء، فحسبوها من الواجبات الأدبية المأمور بها، ووضع نظام وقوانين لوجوبها في الجيل الثالث، حتى قاومتها كنائس أخرى، ورفضت بدعة البتولية وقوانينها، لمغايرتها للطبيعة، ومضادتها لنص الكتب الإلهية، واستقرائها أديرة الراهبات، بأنها في بعض الأماكن كانت بيوتا للفواحش والفساد.
[ ص: 5700 ] وفي كتاب (البراهين الإنجيلية ضد الأباطيل الباباوية): إن ذم الزيجة خطأ؛ لأنها عمل الأفضل؛ لأن الرسول أخبر بأن الزواج خير من التوقد بنار الشهوة، وإن الأكثرين من رسل المسيح كانوا ذوي نساء، تجول معهم. ومن المعلوم أن الطبيعة البشرية تغصب الإنسان على استيفاء حقها، ومن العدل أن تستوفيه، وليس بمحرم عليها استيفاؤه حسب الشريعة، ولا استطاعة لجميع البشر على حفظ البتولية; ولذلك نرى كثيرين من الأساقفة والقسوس والشمامسة، لا بل الباباوات المدعين بالعصمة، قد تكردسوا في هوة الزنا لعدم تحصنهم بالزواج الشرعي، هذا وإن ذات هو غير عادل لتضمنه سلب حقوق الطبيعة وكونه يضع الإنسان تحت خطر السقوط في الزنا ويفتح بابا واسعا لدخول الشيطان، وكأن الراهب ينذر على نفسه مقاومة أمر قبيح، ويعدم وجود ألوف ألوف، ربما كانت تتولد من ذريته، فكأنه قد قتلها. وهذا النذر لم تأمر به الشريعة الإنجيلية قط; فالطريقة الرهبانية هي اختراع شيطاني قبيح، لم يكن له رسم في الكتب المقدسة، ولا في أجيال الكنيسة الأولى، وهو مضر على أنفس الرهبان، وعلى الشعب؛ فمن يقاومه يقاوم الشيطان. وهؤلاء الرهبان لا نفع منهم للرعية، إنما هم كالأمراء الذين يتخذون لأنفسهم قصورا خارج العمران، فيتنعمون وحدهم في أديرتهم، ويسلبون أموال الشعب بالحيل والمخادعات وهم كسالى بطالون، يعيشون من أتعاب غيرهم، خلافا لسلوك رسل المسيح والمبشرين القدماء، الذين لم نر واحدا منهم انفرد عن العالم في مكان نزهته، واحتال بأن يعيش من أتعاب الشعب; إن بولس كان يخدم الكنائس، ويعيش من شغل يديه، وهو يوصي بأن الذي لا يعمل، فلا يطعم. ولا تتسع الصحف لشرح جميع الأضرار التي وقعت على العالم بسبب الرهبنات. انتهى. وهو حجة عليهم منهم. النذر بالامتناع عن الزواج
[ ص: 5701 ]