القول في تأويل قوله تعالى:
[11] يا أيها الذين آمنوا إذا قيل لكم تفسحوا في المجالس فافسحوا يفسح الله لكم وإذا قيل انشزوا فانشزوا يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات والله بما تعملون خبير
يا أيها الذين آمنوا إذا قيل لكم تفسحوا في المجالس فافسحوا يفسح الله لكم تعليم منه تعالى للمؤمنين بالإحسان في أدب المجالس، وذلك بأن يفسح المرء لأخيه ويتنحى توسعة له.
قال الشهاب: وارتباطه بما قبله ظاهر; لأنه لما نهى عن علم منه الجلوس مع الملأ، فذكر آدابه، ورتب على امتثالهم فسحة لهم فيما يريدون التفسح، من المكان والرزق والصدر. التناجي والسرار،
قال : وذلك أن الجزاء من جنس العمل، كما جاء في الحديث الصحيح: ابن كثير عون العبد ما كان العبد في عون أخيه» . ولهذا أشباه كثيرة. «من بنى لله مسجدا بنى الله له بيتا في الجنة. ومن يسر على معسر يسر الله عليه في الدنيا والآخرة، والله في
قال : نزلت هذه الآية في مجالس الذكر، وذلك أنهم إذا رأوا أحدهم مقبلا ضنوا بمجالسهم عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمرهم الله أن يفسح بعضهم لبعض. قتادة
[ ص: 5719 ] وإذا قيل انشزوا أي: انهضوا للتوسعة، أو ارتفعوا في المجالس، أو انهضوا عن مجلس الرسول، إذا أمرتهم بالنهوض عنه، ولا تملوه بالارتكاز فيه، فانشزوا يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات أي: يرفع المؤمنين بامتثال أوامره، وأوامر رسوله، والعالمين بها، الجارين على موجبها بمقتضى علمهم، درجات دنيوية وأخروية.
قال الناصر: لما علم أن أهل العلم بحيث يستوجبون عند أنفسهم وعند الناس ارتفاع مجالسهم، خصهم بالذكر عند الجزاء، ليسهل عليهم ترك ما لهم من الرفعة في المجلس، تواضعا لله تعالى. انتهى.
وهذا -كما قاله الشهاب- من مغيبات القرآن; لما ظهر من هؤلاء في سائر الأعصار من التنافس في رفعة المجالس، ومحبة التصدير.
وفي كلام ما يشير إلى أنه من عطف الخاص على العام، تعظيما له، بعده كأنه جنس آخر، كما في: الزمخشري وملائكته ورسله وجبريل ولذا أعاد الموصول في النظم، والمراد بالعلم علم ما لا بد منه من العقائد الحقة، والأعمال الصالحة.
تنبيهات:
الأول: في "الإكليل": في الآية استحباب في مجالس العلم والذكر، وكل مجلس طاعة.
الثاني: يفهم من الأمر بالتفسح فعن النهي عن إقامة شخص ليجلس أحد مكانه. أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ابن عمر رواه «لا يقيم الرجل الرجل من مجلسه فيجلس فيه، ولكن تفسحوا وتوسعوا» والشيخان. الإمام أحمد
[ ص: 5720 ] وعن عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: أبي هريرة رواه «لا يقيم الرجل الرجل من مجلسه ثم يجلس فيه، ولكن افسحوا يفسح الله لكم» . وفي رواية بلفظ: الإمام أحمد تفرد به «لا يقوم الرجل للرجل من مجلسه، لكن افسحوا يفسح الله لكم» . الإمام أحمد
قال : وقد اختلف الفقهاء في جواز ابن كثير على أقوال: فمنهم من رخص بذلك محتجا بحديث: القيام للوارد إذا جاء، . «قوموا إلى سيدكم»
ومنهم من منع ذلك محتجا بحديث: . «من أحب أن يتمثل له الرجال قياما، فليتبوأ مقعده من النار»
ومنهم من فصل فقال: يجوز عند القدوم من سفر، وللحاكم في محل ولايته، كما دل عليه قصة ، فإنه لما استقدمه النبي صلى الله عليه وسلم حاكما في بني قريظة، فلما رآه مقبلا قال للمسلمين: سعد بن معاذ . وما ذاك إلا ليكون أنفذ لحكمه -والله أعلم- فأما اتخاذه ديدنا فإنه من شعار العجم، وقد جاء في السنن أنه لم يكن شخص أحب إليهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان إذا جاء لا يقومون له؛ لما يعلمون من كراهته لذلك. انتهى. «قوموا إلى سيدكم»
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية ، في فتوى له في ذلك: لم يكن من عادة السلف على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين، أن يعتادوا القيام، كما يفعله كثير من الناس، بل قد قال رضي الله عنه: لم يكن شخص أحب إليهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانوا إذا رأوه لم يقوموا له، لما يعلمون من كراهته لذلك. ولكن ربما قاموا للقادم من مغيبه تلقيا له، كما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنس بن مالك «أنه قام لعكرمة » ، للأنصار لما قدم : «قوموا إلى سيدكم» سعد بن معاذ ، وكان وقال متمرضا سعد بالمدينة، وكان قد قدم إلى بني قريظة شرقي المدينة.
[ ص: 5721 ] والذي ينبغي للناس أن يعتادوا اتباع السلف على ما كانوا عليه على عهد النبي صلى الله عليه وسلم; فإنهم خير القرون، وخير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد، فلا يعدل أحد عن هدي خير الخلق، وهدي خير القرون، إلى ما هو دونه. وينبغي للمطاع أن يقرر ذلك مع أصحابه، بحيث إذا رأوه لم يقوموا له ولا يقوم لهم، إلا في اللقاء المعتاد. فأما ونحو ذلك، تلقيا له، فحسن. القيام لمن يقدم من سفر
وإذا كان من عادة الناس إكرام الجائي بالقيام، ولو ترك ذلك لاعتقد أن ذلك بخس في حقه أو قصد لخفضه، ولم يعلم العادة الموافقة للسنة، فالأصلح أن يقام له; لأن ذلك إصلاح لذات البين، وإزالة للتباغض والشحناء، وأما من عرف عادة القوم الموافقة للسنة، فليس في ترك ذلك إيذاء له، وليس هذا القيام هو القيام المذكور في قوله صلى الله عليه وسلم: ; فإن ذلك أن يقوموا وهو قاعد، ليس هو أن يقوموا لمجيئه إذا جاء، ولهذا فرقوا بين أن يقال: (قمت إليه)، و (قمت له). والقائم للقادم ساواه في القيام، بخلاف القيام للقاعد وقد ثبت في صحيح «من سره أن يتمثل له الناس قياما فليتبوأ مقعده من النار» أن النبي صلى الله عليه وسلم لما صلى بهم قاعدا في مرضه، وصلوا قياما أمرهم بالقعود. وقال: مسلم ، فقعودهم عن القيام في الصلاة وهو قاعد; لئلا يشبهوا الأعاجم الذين يقومون لعظمائهم وهم قعود. وجماع ذلك أن الذي يصلح، اتباع عادة السلف وأخلاقهم، والاجتهاد بحسب الإمكان. فمن لم يعتد ذلك، أو لم يعرف أنه العادة، وكان في ترك معاملته بما اعتاده الناس من الاحترام مفسدة راجحة، فإنه يدفع أعظم الفسادين بالتزام أدناهما، كما يجب فعل أعظم الصلاحين بتفويت أدناهما. انتهى كلام شيخ الإسلام، رحمه الله وجزاه عن الإسلام والمسلمين خيرا. «لا تعظموني كما يعظم الأعاجم بعضها بعضا»
الثالث: قال : روي عن ابن كثير ابن عباس وغيرهما، أنهم قالوا في قوله تعالى: والحسن البصري إذا قيل لكم تفسحوا في المجالس فافسحوا يعني في مجالس الحرب. قالوا: ومعنى قوله: وإذا قيل انشزوا فانشزوا أي: انهضوا للقتال.
[ ص: 5722 ] وقال : قتادة وإذا قيل انشزوا فانشزوا أي: دعيتم إلى خير فأجيبوا.
وقال : إذا دعيتم إلى الصلاة فارتفعوا بها. مقاتل
وقال : كانوا إذا كانوا عند النبي صلى الله عليه وسلم في بيته فأرادوا الانصراف، أحب كل منهم أن يكون هو آخرهم خروجا من عنده، فربما يشق ذلك عليه، عليه السلام، وقد تكون له الحاجة. فأمروا أنهم إذا أمروا بالانصراف أن ينصرفوا، كقوله تعالى: عبد الرحمن بن زيد بن أسلم وإن قيل لكم ارجعوا فارجعوا انتهى.
ولا تنافي بين هذه الأقوال؛ لأن كلا منها تفسير للفظ العام ببعض أفراده. وما يصدق عليه إشارة على تناوله لذلك، لا أن أحدهما هو المراد دون غيره، فلذلك ما لا يتوهم. وقد كثر مثل ذلك في تفاسير السلف لكثير من الآي، وكله مما لا اختلاف فيه كما بيناه مرارا.
الرابع: في "الإكليل" قال قوم: معنى: يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات يرفع الله المؤمنين منكم العلماء درجات على غيرهم، فلذلك أمر بالتفسح من أجلهم، ففيه دليل على رفع العلماء في المجالس، والتفسح لهم عن المجالس الرفيعة. انتهى.