القول في تأويل قوله تعالى :
[ 97 ] فيه آيات بينات مقام إبراهيم ومن دخله كان آمنا ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا ومن كفر فإن الله غني عن العالمين
فيه آيات بينات مقام إبراهيم وهو الحجر الذي قام عليه عند رفعه قواعد البيت . قال وقد كان ملتصقا بجدار البيت ، حتى أخره ابن كثير : - رضي الله عنه - في إمارته إلى ناحية الشرق ، بحيث يتمكن الطواف منه ، ولا يشوشون على المصلين عنده بعد الطواف ، لأن الله تعالى قد أمرنا بالصلاة عنده ، حيث قال : عمر بن الخطاب واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى وتقدم الكلام على ذلك في سورة البقرة . قال المفسرون : ثمرة الآية : لأنه تعالى وصفه بالبركة والهدى وجعل فيه آيات بينات . الترغيب [ ص: 896 ] في زيارة البعض الحرم وفعل الطاعات فيه ،
لطيفة :
مقام إبراهيم مبتدأ حذف خبره ، أي : منها مقام إبراهيم ، أو بدل من آيات ، بدل البعض من الكل ، أو عطف بيان ، إما وحده باعتبار كونه بمنزلة آيات كثيرة لظهور شأنه وقوة دلالته على قدرة الله تعالى ، وعلى نبوة إبراهيم عليه الصلاة والسلام ، كقوله تعالى : إن إبراهيم كان أمة قانتا أو باعتبار اشتماله على آيات كثيرة . قالوا : فإن كل واحد من أثر قدميه في صخرة صماء ، وغوصه فيها إلى الكعبين ، وإلانة بعض الصخور دون بعض ، وإبقائه دون سائر آيات الأنبياء عليهم السلام ، وحفظه ، مع كثرة الأعداء ، ألوف السنين ، آية مستقلة . ويؤيده قراءة ( آية بينة ) على التوحيد ، وإما بما يفهم من قوله - عز وجل - :
ومن دخله كان آمنا فإنه وإن كان جملة مستأنفة ابتدائية أو شرطية ، لكنها في قوة أن يقال : ( وأمن من دخله ( فتكون بحسب المعنى والمآل ، معطوفة على مقام إبراهيم ، ولا يخفى أن الاثنين نوع من الجمع فيكتفى بذلك ، أو يحمل على أنه ذكر من تلك الآيات اثنتان ، وطوى ذكر ما عداهما دلالة على كثرتها - أفاده أبو السعود - . قال المهايمي : فيه آيات بينات رمي الطير أصحاب الفيل بحجارة من سجيل ، وتعجيل عقوبة من عتا فيه ، وإجابة دعاء من دعا تحت ميزابه ، وإذعان النفوس لتوقيره من غير زاجر ، ومن أعظمها : النازل منزلة الكل ، مقام إبراهيم ، الحجر الذي قام عليه عند رفعه قواعد البيت ، كلما علا الجدار ارتفع الحجر في الهواء ، ثم لين ، فغرقت فيه قدماه ، كأنهما في طين ، فبقي أثره إلى يوم القيامة . ومن آياته : أن من دخله كان آمنا من نهب العرب وقتالهم ، وقد أمن صيده وأشجاره . - ا هـ - . [ ص: 897 ] قال أبو السعود : ومعنى أمن داخله : أمنه من التعرض له كما في قوله تعالى : ( أولم يروا أنا جعلنا حرما آمنا ويتخطف [ ص: 901 ] الناس من حولهم ) وذلك بدعوة إبراهيم عليه السلام : رب اجعل هذا بلدا آمنا وكان الرجل لو جر كل جريرة ثم لجأ إلى الحرم لم يطلب . وعن - رضي الله عنه - : لو ظفرت فيه بقاتل الخطاب ما مسـسته حتى يخرج عنه . ا هـ . عمر
تنبيه :
ما أفادته الآية من إثبات الأمان لداخله إنما هو بتحريمه الشرعي الذي وردت به الآيات ، وأوضحته الأحاديث والآثار . ففي الصحيحين ، واللفظ عن لمسلم ، - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم فتح ابن عباس مكة : . وقال يوم فتح « لا هجرة ، ولكن جهاد ونية ، وإذا استنفرتم فانفروا » مكة : يا رسول الله إلا الإذخر ، فإنه لقينهم ولبيوتهم ، فقال : « إلا الإذخر » العباس : . ولهما عن « إن هذا البلد حرمه الله يوم خلق السماوات والأرض ، فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة لا يعضد شوكه ، ولا ينفر صيده ، ولا يلتقط لقطته ، إلا من عرفها ، ولا يختلى خلاها ». فقال مثله أو نحوه ؛ [ ص: 898 ] ولهما ، واللفظ أبي هريرة أيضا ، لمسلم أبي شريح العدوي أنه قال لعمرو بن سعيد ، وهو يبعث البعوث إلى مكة : ائذن لي أيها الأمير أن أحدثك قولا قام به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الغد من يوم الفتح ، سمعته أذناي ، ووعاه قلبي ، وأبصرته عيناي ، حين تكلم به ، إنه حمد الله وأثنى عليه ثم قال : « إن مكة حرمها الله ، ولم يحرمها الناس ، فلا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك بها دما أو يعضد بها شجرة ، فإن أحد ترخص بقتال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيها فقولوا له : إن الله أذن لنبيه ولم يأذن لكم ، وإنما أذن لي فيها ساعة من نهار ، وقد عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس ، فليبلغ الشاهد الغائب » . فقيل لأبي شريح : ما قال لك ؟ قال : أنا أعلم بذلك منك يا أبا شريح . إن الحرم لا يعيذ عاصيا ، ولا فارا بدم ، ولا فارا بخربة . عن
قال الإمام ابن القيم في ( زاد المعاد ) : قوله فلا يحل لأحد أن يسفك بها دما ، هذا التحريم لسفك الدم المختص بها ، وهو الذي يباح في غيرها ، ويحرم فيها ، لكونها حرما ، كما أن هو أمر مختص بها ، وهو مباح في غيرها ، إذ الجميع في كلام واحد ، ونظام واحد ، وإلا بطلت فائدة التخصيص ، وهذا أنواع : تحريم عضد الشجرة بها واختلاء خلاها والتقاط لقطتها ،
أحدها : وهو الذي ساقه أبو شريح العدوي لأجله : أن الطائفة الممتنعة بها من مبايعة الإمام لا تقاتل ، لا سيما إن كان لها تأويل. كما امتنع أهلمكة من مبايعة يزيد ، وبايعوا فلم يكن قتالهم ونصب المنجنيق عليهم وإحلال حرم الله جائزا بالنص والإجماع ، وإنما خالف [ ص: 899 ] في ذلك ابن الزبير . عمرو بن سعيد الفاسق وشيعته ، وعارض نص رسول الله - صلى الله عليه وسلم - برأيه وهواه فقال : إن الحرم لا يعيذ عاصيا . فيقال له : هو لا يعيذ عاصيا من عذاب الله ، ولو لم يعذه من سفك دمه لم يكن حرما بالنسبة إلى الآدميين ، وكان حرما بالنسبة إلى الطير والحيوان البهيم ، وهو لم يزل يعيذ العصاة من عهد إبراهيم صلوات الله عليه وسلامه ، وقام الإسلام على ذلك ، وإنما لم يعد مقيس بن صبابة وابن خطل ومن سمي معهما ؛ لأنه في تلك الساعة لم يكن حرما بل حلا ، فلما انقضت ساعة الحرب عاد إلى ما وضع عليه يوم خلق الله السماوات والأرض . وكانت العرب في جاهليتها ، يرى الرجل قاتل أبيه أو ابنه في الحرم فلا يهيجه ، وكان ذلك بينهم خاصة الحرم الذي صار بها حرما . ثم جاء الإسلام فأكد ذلك وقواه ، وعلم النبي - صلى الله عليه وسلم - أن من الأمة من يتأسى به في إحلاله بالقتال والقتل ، فقطع الإلحاق وقال لأصحابه : ، وعلى هذا فمن « فإن أحد ترخص لقتال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقولوا : إن الله أذن لرسوله ولم يأذن لك » لم يجز إقامته عليه فيه . وذكر الإمام أتى حدا أو قصاصا خارج الحرم يوجب القتل ، ثم لجأ إليه ، عن أحمد - رضي الله عنه - أنه قال : لو وجدت فيه قاتل عمر بن الخطاب الخطاب ما مسسته حتى يخرج منه . وذكر عن أنه قال : لو وجدت فيه قاتل عبد الله بن عمر ما بدهته . وعن عمر أنه قال : لو لقيت قاتل أبي في الحرم ما هجته حتى يخرج منه ، وهذا قول جمهور التابعين ومن بعدهم ، بل لا يحفظ عن تابعي ولا صحابي خلافه . وإليه ذهب ابن عباس رحمه الله ومن وافقه من أهل أبو حنيفة العراق ، والإمام ومن وافقه من أهل الحديث . وذهب أحمد مالك إلى أنه يستوفي منه في الحرم كما يستوفي منه في الحل ، وهو اختيار والشافعي واحتج لهذا القول بعموم النصوص الدالة على ابن المنذر ، وبأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قتل استيفاء الحدود والقصاص في كل مكان وزمان ، ابن خطل وهو متعلق بأستار الكعبة ، وبما يروى [ ص: 900 ] عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : . وبأنه لو كانت الحدود والقصاص فيما دون النفس لم يعذه الحرم ، ولم يمنعه من إقامته عليه ، وبأنه لو أتى فيه بما يوجب حدا أو قصاصا لم يعذه الحرم ولم يمنع من إقامته ، فكذلك إذا أتاه خارجه ثم لجأ إليه ، إذ كونه حرما بالنسبة إلى عصمته لا يختلف بين الأمرين ، وبأنه حيوان أبيح قتله لفساده ، فلم يفترق الحال بين قتله لاجئا إلى الحرم وبين كونه قد أوجب ما أبيح قتله فيه ، كالحية والحدأة والكلب العقور ، ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : « إن الحرم لا يعيذ عاصيا ولا فارا بدم ولا بخربة » . فنبه بقتلهن في الحل والحرم على العلة - وهي فسقهن - ولم يجعل التجاءهن إلى الحرم مانعا من قتلهن ، وكذلك فاسق بني « خمس فواسق يقتلن في الحل والحرم » آدم الذي قد استوجب القتل . قال الأولون : ليس في هذا ما يعارض ما ذكرنا من الأدلة ، ولا سيما قوله تعالى : ومن دخله كان آمنا وهذا إما خبر بمعنى الأمر لاستحالة الخلف في خبره تعالى ، وإما خبر عن شرعه ودينه الذي شرعه في حرمه ، وإما إخبار عن الأمر المعهود المستمر في حرمه في الجاهلية والإسلام كما قال تعالى : أولم يروا أنا جعلنا حرما آمنا ويتخطف الناس من حولهم وقوله تعالى : وقالوا إن نتبع الهدى معك نتخطف من أرضنا أولم نمكن لهم حرما آمنا يجبى إليه ثمرات كل شيء
وما عدا هذا من الأقوال الباطلة فلا يلتفت إليه كقول بعضهم : من دخله كان آمنا من النار ، وقول بعضهم : كان آمنا من الموت على غير الإسلام ، ونحو ذلك ، فكم ممن دخله وهو في قعر الجحيم . وأما العمومات الدالة على استيفاء الحدود والقصاص في كل زمان ومكان فيقال أولا : لا تعرض في تلك العمومات لزمان الاستيفاء ولا مكانه ، كما لا تعرض فيها لشروطه وعدم موانعه ، فإن اللفظ لا يدل عليها بوضعه ، ولا بتضمنه فهو مطلق بالنسبة إليها ، ولهذا إذا كان للحكم شرط أو مانع لم يقل إن توقف الحكم عليه تخصيص لذلك العام ، فلا يقول محصل إن قوله تعالى : وأحل لكم ما وراء ذلكم مخصوص بالمنكوحة في عدتها أو بغير إذن وليها ، أو بغير شهود ، فهكذا النصوص العامة في استيفاء الحدود والقصاص لا تعرض فيها لزمنه ولا مكانه ولا شرطه ولا مانعه ، ولو قدر تناول اللفظ لذلك لوجب تخصيصه بالأدلة الدالة على المنع ، لئلا يبطل موجبها ، ووجب حمل اللفظ العام على ما عداها كسائر نظائره ، وإذا خصصتم تلك العمومات بالحامل والمرضع والمريض الذي يرجى برؤه ، والحال المحرمة للاستيفاء كشدة المرض أو البرد أو الحر ، فما المانع من تخصيصها بهذه الأدلة ؟ وإن قلتم : ليس ذلك تخصيصا بل تقييدا لمطلقها كلنا لكم هذا الصاع [ ص: 902 ] سواء بسواء . وأما قتل ابن خطل فقد تقدم أنه كان في وقت الحل ، وإن النبي - صلى الله عليه وسلم - قطع الإلحاق ، ونص على أن ذلك من خصائصه ، وقوله - صلى الله عليه وسلم - : ، صريح في أنه إنما أحل له سفك دم حلال في غير الحرم في تلك الساعة خاصة ، إذ لو كان حلالا في كل وقت ، لم يختص بتلك الساعة ، وهذا صريح في أن الدم الحلال في غيرها حرام فيها ، فيما عدا تلك الساعة . وأما قوله : الحرم لا يعيذ عاصيا ، فهو من كلام الفاسق « وإنما أحلت لي ساعة من نهار » عمرو بن سعيد الأشدق ، يرد به حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين روى له أبو شريح الكعبي هذا الحديث ، كما جاء مبينا في الصحيح ، فكيف يقدم على قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؟ وأما قولكم : لو كان الحد والقصاص فيما دون النفس لم يعذه الحرم منه ، فهذه المسألة فيها قولان للعلماء : وهما روايتان منصوصتان عن رحمه الله ، فمن منع الاستيفاء نظر إلى عموم الأدلة العاصمة بالنسبة إلى النفس وما دونها ، ومن فرق قال : سفك الدم إما ينصرف إلى القتل ولا يلزم من تحريمه في الحرم تحريمه تحريم ما دونه ، لأن حرمة النفس أعظم ، والانتهاك بالقتل أشد ، قالوا : ولأن الحد بالجلد أو القطع يجري مجرى التأديب ، فلم يمنع منه ، كتأديب السيد عبده . وظاهر هذا المذهب أنه لا فرق بين النفس وما دونها في ذلك . قال الإمام أحمد : هذه مسألة وجدتها أبو بكر لحنبل عن عمه : أن ، قال : والعمل على أن كل جان دخل الحرم لم يقم عليه الحد حتى يخرج منه ، قالوا : وحينئذ فنجيبكم بالجواب المركب ، وهو أنه إن كان بين النفس وما دونها في ذلك فرق مؤثر بطل الإلزام ، وإن لم يكن بينهما فرق مؤثر سوينا بينهما في الحكم وبطل الاعتراض ، فتحقق بطلانه على التقديرين . قالوا : وأما قولكم إن الحرم لا يعيذ من هتك فيه الحرمة إذ أتى بما يوجب الحد ، فكذلك اللاجئ إليه ، فهو جمع بين ما فرق الله ورسوله والصحابة بينهما . فروى الحدود كلها تقام في الحرم إلا القتل ، حدثنا الإمام أحمد عن عبد الرزاق عن معمر ابن طاوس عن أبيه عن قال : من ابن عباس فإنه لا يجالس ولا يكلم ولا يؤوى ، حتى يخرج فيؤخذ فيقام عليه الحد . وإن سرق أو قتل في الحرم أقيم عليه في الحرم . وذكر سرق أو قتل في الحد ثم دخل الحرم عن [ ص: 903 ] الأثرم أيضا : من أحدث حدثا في الحرم ، أقيم عليه ما أحدث فيه من شيء ، وقد أمر الله سبحانه بقتل من قاتل في الحرم فقال : ابن عباس ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه فإن قاتلوكم فاقتلوهم والفرق بين اللاجئ والمتهتك فيه من وجوه :
أحدها : أن الجاني فيه هاتك لحرمته بإقدامه على الجناية فيه ، بخلاف من جنى خارجه ثم لجأ إليه فإنه معظم لحرمته مستشعر بها بالتجائه إليه ، فقياس أحدهما على الآخر باطل .
الثاني : أن الجاني فيه بمنزلة المفسد الجاني على بساط الملك في داره وحرمه ، ومن جنى خارجه ثم لجأ إليه فإنه بمنزلة من جنى خارج بساط الملك وحرمه ثم دخل إلى حرمه مستجيرا .
الثالث : أن الجاني في الحرم قد هتك حرمة الله سبحانه وحرمة بيته وحرمه ، فهو هاتك لحرمتين بخلاف غيره .
الرابع : أنه لو لم يقم الحد على الجناة في الحرم لعم الفساد وعظم الشر في حرم الله ، فإن أهل الحرم كغيرهم في الحاجة إلى نفوسهم وأموالهم وأعراضهم ، ولو لم يشرع الحد في حق من ارتكب الجرائم في الحرم لتعطلت حدود الله وعم الضرر للحرم وأهله .
والخامس : أن اللاجئ إلى الحرم بمنزلة التائب المتنصل اللاجئ إلى بيت الرب تعالى المتعلق بأستاره ، فلا يناسب حاله ولا حال بيته وحرمه أن يهاج ، بخلاف المقدم على انتهاك حرمته .
فظهر سر الفرق ، وتبين أن ما قاله هو محض الفقه . وأما قولكم : إنه حيوان مفسد فأبيح قتله في الحل والحرم كالكلب العقور فلا يصح القياس ، فإن الكلب العقور طبعه الأذى ، فلم يحرمه الحرم ليدفع أذاه عن أهله . وأما الآدمي فالأصل فيه الحرمة وحرمته [ ص: 904 ] عظيمة ، فإنما أبيح لعارض فأشبه الصائل من الحيوانات المباحة من المأكولات ، فإن الحرم يعصمها ، وأيضا فإن حاجة أهل الحرم إلى قتل الكلب العقور والحية والحدأة كحاجة أهل الحل سواء ، فلو أعاذها الحرم لعظم عليهم الضرر بها . انتهى . ( من الجزء الثاني من صفحة 177 إلى صفحة 180 ) . ابن عباس
ولما ذكر تعالى فضائل البيت ومناقبه ، أردفه بذكر إيجاب الحج فقال : ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا اللام في البيت للعهد . وحجه : قصده للزيارة بالنسك المعروف . وكسر الحاء وفتحها لغتان ، وهما قراءتان سبعيتان ، وفي الآية مباحث :
الأول : في إعرابها قال أبو السعود في صدر الآية : جملة من مبتدأ هو : حج البيت وخبر هو : ( لله ) وقوله تعالى : على الناس متعلق بما تعلق به الخبر من الاستقرار ، أو بمحذوف هو حال من الضمير المستكن في الجار ، والعامل فيه ذلك الاستقرار ، ويجوز أن يكون : ( على الناس ) هو الخبر ، و : ( لله ) متعلق بما تعلق به الخبر . ثم قال في قوله تعالى : من استطاع إليه سبيلا في محل الخبر على أنه بدل من : ( الناس ) بدل البعض من الكل مخصص لعمومه ، فالضمير العائد إلى المبدل منه محذوف ، أي : من استطاع منهم ، وقيل : بدل الكل ، على أن المراد بالناس هو البعض المستطيع ، فلا حاجة إلى الضمير . وقيل : في محل الرفع ، على أنه خبر مبتدأ مضمر ، أي : هم من استطاع . وقيل : في حيز النصب بتقدير : أعني .
الثاني : هذه الآية هي آية وجوب الحج عند الجمهور . وقيل : بل هي قوله : وأتموا الحج والعمرة لله والأول أظهر . وفي ( فتح البيان ) : اللام في قوله : ( لله ) هي التي يقال لها [ ص: 905 ] لام الإيجاب والإلزام ، ثم زاد هذا المعنى تأكيدا حرف : ( على ) فإنه من أوضح الدلالات على الوجوب عند العرب . كما إذا قال القائل : لفلان علي كذا ، فذكره الله سبحانه بأبلغ ما يدل على الوجوب تأكيدا لحقه ، وتعظيما لحرمته . وقد وردت الأحاديث المتعددة بأنه أحد أركان الإسلام ودعائمه وقواعده ، وأجمع المسلمون على ذلك إجماعا ضروريا .
الثالث : يجب الحج على المكلف في العمر مرة واحدة ، بالنص والإجماع ، روى الإمام أحمد وغيرهما عن ومسلم - رضي الله عنه - قال : أبي هريرة . وروى الإمام خطبنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : « أيها الناس إنه فرض الله عليكم الحج فحجوا » . فقال رجل : أكل عام يا رسول الله ؟ فسكت . حتى قالها ثلاثا ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : « لو قلت نعم لوجبت ولما استطعتم » . ثم قال : « ذروني ما تركتكم ، فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم ، فإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم ، وإذا نهيتكم عن شيء فدعوه » أحمد وأبو داود وغيرهم عن والنسائي قال : ابن عباس الأقرع بن حابس فقال : يا رسول الله أفي كل عام ؟ فقال : « لو قلتها لوجبت ، ولو وجبت لم تعملوا بها ولن تستطيعوا أن تعملوا بها . الحج مرة . فمن زاد فهو تطوع » . خطبنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : « يا أيها الناس ! إن الله كتب عليكم الحج » ، فقام
[ ص: 906 ] الرابع : استطاعة السبيل عبارة عن إمكان الوصول إليه . قال اختلف العلماء في قوله تعالى : ابن المنذر : من استطاع إليه سبيلا فقالت طائفة : الآية على العموم ، إذ لا نعلم خبرا ثابتا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا إجماعا لأهل العلم يوجب أن نستثني من ظاهر الآية بعضا ، فعلى - على ظاهر الآية - . قال : وروينا عن كل مستطيع للحج يجد إليه السبيل بأي وجه كانت الاستطاعة الحج أنه قال : الاستطاعة : الصحة . وقال عكرمة إذا كان شابا صحيحا ليس له مال فليؤجر نفسه بأكله وعقبه حتى يقضي نسكه . فقال له قائل : أكلف الله الناس أن يمشوا إلى البيت ؟ فقال : لو كان لبعضهم ميراث الضحاك : بمكة أكان يتركه ؟ قال : لا ، بل ينطلق إليه ولو حبوا ، قال : فكذلك يجب عليه حج البيت . وقال الاستطاعة على إطاقة الناس ، الرجل يجد الزاد والراحلة ولا يقدر على المشي ، وآخر يقدر على المشي على رجليه . وقالت طائفة : الاستطاعة : الزاد والراحلة ، كذلك قال مالك : الحسن وسعيد بن جبير ومجاهد واحتجوا بحديث وأحمد بن حنبل ، ابن عمر - رواه أن رجلا قال : يا رسول الله ما يوجب الحج ؟ قال : « الزاد والراحلة » - وفي إسناده الترمذي الخوزي فيه مقال . قال لكن قد تابعه غيره . وقد اعتنى الحافظ ابن كثير : بجمع طرق هذا الحديث . ورواه أبو بكر بن مردويه من حديث الحاكم عن قتادة أنس من استطاع إليه سبيلا فقيل : ما السبيل ؟ قال : « الزاد والراحلة » ، ثم قال : صحيح على شرط أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سئل عن قول الله - عز وجل - : ولم يخرجاه . مسلم ،
الخامس : قال الإمام ابن القيم الدمشقي - رضي الله عنه - في ( زاد المعاد ) في سياق هديه - صلى الله عليه وسلم - في حجته : لا خلاف أنه لم يحج بعد هجرته إلى المدينة سوى حجة واحدة ، وهي حجة الوداع ، ولا خلاف أنها كانت سنة عشر ، واختلف هل حج قبل الهجرة ؟ .
[ ص: 907 ] وروى عن الترمذي - رضي الله عنه - قال : جابر بن عبد الله قال حج النبي - صلى الله عليه وسلم - ثلاث حجج : حجتين قبل أن يهاجر ، وحجة بعد ما هاجر ، معها عمرة . هذا حديث غريب من حديث الترمذي : سفيان . قال : وسألت محمدا - يعني : البخاري - عن هذا فلم يعرفه من حديث وفي رواية : لا يعد هذا الحديث محفوظا . ولما نزل فرض الحج بادر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى الحج من غير تأخير ، فإن فرض الحج تأخر إلى سنة تسع أو عشر . وأما قوله تعالى : الثوري . وأتموا الحج والعمرة لله فإنها ، وإن نزلت سنة ست عام الحديبية ، فليس فيها فريضة الحج ، وإنما فيها الأمر بإتمامه وإتمام العمرة بعد الشروع فيهما ، وذلك لا يقتضي وجوب الابتداء . فإن قيل : فمن أين لكم تأخر نزول فرضه إلى التاسعة أو العاشرة ؟ قيل : لأن صدر سورة آل عمران نزل عام الوفود ، وفيه قدم وفد نجران على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وصالحهم على أداء الجزية والجزية إنما نزلت عام تبوك سنة تسع ، وفيها نزل صدر سورة آل عمران ، وناظر أهل الكتاب ودعاهم إلى التوحيد والمباهلة . ويدل عليه أن أهل مكة وجدوا في نفوسهم لما فاتهم من التجارة من المشركين لما أنزل الله تعالى : يا أيها الذين آمنوا إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا فأعاضهم الله تعالى من ذلك بالجزية . ونزول هذه الآيات والمناداة بها إنما كان في سنة تسع . وبعث الصديق يؤذن بذلك في مكة في مواسم الحج ، وأردفه - رضي الله عنه - وهذا الذي ذكرناه قد قاله غير واحد من السلف والله أعلم . وقوله تعالى : بعلي
ومن كفر فإن الله غني عن العالمين إما مستأنف لوعيد من كفر به تعالى ، لا تعلق له بما قبله ، وإما أنه متعلق به ومنتظم معه ، وهو أظهر وأبلغ . والكفر - على هذا - إما بمعنى جحد فريضة الحج ، أو بمعنى ترك ما تقدم الأمر به . ونظيره في السنة ما رواه [ ص: 908 ] النسائي عن والترمذي مرفوعا : بريدة . وعن « العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر » عبد الله بن شقيق قال : كان أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يرون شيئا من الأعمال تركه كفر إلا الصلاة - أخرجه - الترمذي عن ولأبي داود مرفوعا : جابر ولفظ مسلم : « بين العبد وبين الكفر ترك الصلاة » . وروى « بين الرجل وبين الشرك ترك الصلاة » عن الترمذي - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . علي ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا » . قال « من ملك زادا وراحلة تبلغه إلى بيت الله ولم يحج ، فلا عليه أن يموت يهوديا أو نصرانيا ، وذلك أن الله تعالى يقول : هذا حديث حسن غريب ، لا نعرفه إلا من هذا الوجه ، وفي إسناده مقال . وقد روى الحافظ الترمذي : عن أبو بكر الإسماعيلي قال : من أطاق الحج فلم يحج ، فسواء عليه مات يهوديا أو نصرانيا . قال عمر بن الخطاب : إسناده صحيح إلى ابن كثير - رضي الله عنه - : وروى عمر في سننه عن سعيد بن منصور قال : قال الحسن البصري - رضي الله عنه - : لقد هممت أن أبعث رجلا إلى هذه الأمصار ، فينظروا إلى كل من كان عنده جدة فلم يحج ، فيضربوا عليهم الجزية ، ما هم بمسلمين ، ما هم بمسلمين . قال عمر بن الخطاب السيوطي في ( الإكليل ) : وقد استدل بظاهر الآية ابن حبيب على أن كفر . ثم قال : وأخرج من ترك الحج ، وإن لم ينكره ، عن ابن أبي حاتم من كان يجد وهو موسر صحيح ولم يحج ، كان سيماه بين عينيه كافر ، ثم تلا هذه الآية . ابن عمر :
[ ص: 909 ] تنبيه :
هذه الآية الكريمة حازت من فنون الاعتبارات المعربة عن كمال ما لا مزيد عليه ، فمنها الإتيان باللام وعلى في قوله : الاعتناء بأمر الحج والتشديد على تاركه ولله على الناس حج البيت يعني : أنه حق واجب لله في رقاب الناس لا ينفكون عن أدائه والخروج عن عهدته ، ومنها أنه ذكر الناس ثم أبدل عنه : من استطاع إليه سبيلا وفيه ضربان من التأكيد :
أحدهما : أن الإبدال تثنية للمراد وتكرير له .
والثاني : أن الإيضاح بعد الإبهام ، والتفصيل بعد الإجمال إيراد له في صورتين مختلفتين .
ومنها : قوله : ومن كفر مكان من لم يحج تغليظا على تارك الحج .
ومنها : ذكر الاستغناء عنه . وذلك مما يدل على المقت والسخط والخذلان .
ومنها : قوله : عن العالمين ولم يقل : عنه . وما فيه من الدلالة على الاستغناء عنه ببرهان ، لأنه إذا استغنى عن العالمين تناوله الاستغناء لا محالة ، ولأنه يدل على الاستغناء الكامل ، فكان أدل على عظم السخط الذي وقع عبارة عنه - أشار لذلك - ثم عنف تعالى كفرة أهل الكتاب على عنادهم للحق بقوله :
الزمخشري