القول في تأويل قوله تعالى:
[82] الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون
الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أي: بشرك، كما يفعله الفريق المشركون [ ص: 2388 ] حيث يزعمون أنهم يؤمنون بالله عز وجل، وأن عبادتهم للأصنام من تتمات إيمانكم وأحكامه، لكونها لأجل التقريب والشفاعة، كما قالوا: ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى . وهذا معنى اللبس - أفاده أبو السعود - وسيأتي زيادة لذلك.
أولئك لهم الأمن يوم القيامة: وهم مهتدون أي: إلى الحق، ومن عداهم في ضلال.
روى البخاري وغيرهما عن ومسلم عبد الله قال: ولم يلبسوا إيمانهم بظلم قال أصحابه: وأينا لم يظلم نفسه؟ فنزلت: إن الشرك لظلم عظيم . - هذا لفظ رواية لما نزلت: -. البخاري
ولفظ رواية الإمام عن أحمد عبد الله قال: الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم شق ذلك على الناس، فقالوا: يا رسول الله! فأينا لا يظلم نفسه؟ قال: «إنه ليس الذي تعنون، ألم تسمعوا ما قال العبد الصالح: يا بني لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم ؟ إنما هو الشرك» . لما نزلت هذه الآية:
أقول: هذه الرواية توضح رواية السابقة - أعني: قول البخاري فنزلت: إن الشرك .. إلخ - من جهة أن النزول أريد به تفسير الآية، لا سبب نزولها، وهو اصطلاح للصحابة والتابعين دقيق، ينبغي التنبه له. وقد أشرنا له في المقدمة. فجدد به عهدا. ابن مسعود:
عن ولابن أبي حاتم عبد الله مرفوعا: . ولم يلبسوا إيمانهم بظلم قال: «بشرك»
[ ص: 2389 ] قال: وروي عن أبي بكر وعمر وأبي بن كعب وحذيفة وابن عباس وابن عمر وعمرو بن شرحبيل وأبي عبد الرحمن السلمي ومجاهد وعكرمة والنخعي والضحاك وقتادة وغير واحد نحو ذلك. نقله والسدي، وبالجملة، فلا يعلم مخالف من الصحابة والتابعين في تفسير (الظلم) هنا بالشرك، وقوفا مع الحديث الصحيح في ذلك، المبين للنظائر القرآنية الموضح بعضها لما أبهم في بعض. وتعرف تلك القاعدة من مثل هذا الحديث يكشف غمة أوهام كثيرة. ولو قيل: لا يلزم من قوله: ابن كثير. إن الشرك لظلم عظيم أن غير الشرك لا يكون ظلما، يجاب: بأن التنوين في (بظلم) للتعظيم، فكأنه قيل: لم يلبسوا إيمانهم بظلم عظيم. ولما تبين أن الشرك ظلم عظيم علم أن المراد: لم يلبسوا إيمانهم بشرك، أو أن المتبادر من المطلق أكمل أفراده. كذا في "العناية".
قال الرازي: والدليل على أن هذا هو المراد، أن هذه القصة من أولها إلى آخرها إنما وردت في نفي الشركاء والأضداد والأنداد، وليس فيها ذكر الطاعات والعبادات، فوجب حمل الظلم ههنا على ذلك.
تنبيه:
حيث علم أن الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم فسر الآية بما تقدم فليعض عليه بالنواجذ، وأما ما هذى به من قوله في تفسير الآية: أي: لم يخلطوا إيمانهم بمعصية تفسقهم، وأبى تفسير الظلم بالكفر، لفظ (اللبس) أي: لأن لبس الإيمان بالشرك أي: خلطه به، مما لا يتصور، لأنهما ضدان لا يجتمعان - على زعمه - فمدفوع بأنه يلابسه؛ لأنه إن أريد بالإيمان مطلق التصديق، سواء كان اللسان أو غيره، فظاهر أنه يجامع الشرك كالمنافق. وكذا إن أريد تصديق القلب، لجواز أن يصدق بوجود الصانع، دون وحدانيته، لما في قوله تعالى: الزمخشري وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون وهو ما أشير إليه قبل. [ ص: 2390 ] ولو أريد التصديق بجميع ما يجب التصديق به بحيث يخرج عن الكفر، فلا يلزم من لبس الإيمان بالشرك الجمع بينهما، بحيث يصدق عليه أنه مؤمن ومشرك، بل تغطيته بالكفر، وجعله مغلوبا مضمحلا، أو اتصافه بالإيمان، ثم الكفر، ثم الإيمان ثم الكفر مرارا، وبعد تسليم ما ذكر، فاختصاص الأمن بغير العصاة لا يوجب كون العصاة معذبين البتة، بل خائفين ذلك، متوقعين للاحتمال، ورجحان جانب الوقوع - كذا في "شرح الكشاف".
وفي "الانتصاف": إنما يروم بذلك تنزيله على معتقده، في وجوب وعيد العصاة، وأنهم لا حظ لهم في الأمن كالكفار. ويجعل هذه الآية تقتضي تخصيص الأمن بالجامعين بين الأمرين: الإيمان والبراءة من المعاصي. ونحن نسلم ذلك، ولا يلزم أن يكون الخوف اللاحق للعصاة، هو الخوف اللاحق للكفار؛ لأن العصاة من المؤمنين إنما يخافون العذاب المؤقت، وهم آمنون من الخلود. وأما الكفار فغير آمنين بوجه ما. انتهى. الزمخشري
وأما قول المعتزلة: حديث عبد الله المتقدم - إن صح - يكون خبر واحد، في مقابلة الدليل القطعي، ومثله لا يعمل به - فالجواب: بأنه صح بلا ريب، لتخريج الشيخين له.
وإذا جاء نهر الله بطل نهر معقل
وقولهم: في مقابلة الدليل القطعي، بهتان عظيم. ويا لله العجب من هؤلاء، قابلوا السنة الصحيحة بكناسة الرأي، ولم يستحيوا من الله تعالى ورسوله في هذه المخالفة، فأين تذهب [ ص: 2391 ] به عقولهم؟ إلى الحق أم إلى الباطل؟ ولكن كما قال ابن سهل:
فما أضيع البرهان عند المقلد
هذا، وقد روى عن ابن مردويه عن سعيد بن جبير قال: ابن عباس كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسير ساره، إذ عرض له أعرابي فقال: يا رسول الله! والذي بعثك بالحق! لقد خرجت من بلادي وتلادي ومالي، لأهتدي بهداك، وآخذ من قولك، وما بلغتك حتى ما لي طعام إلا من خضر الأرض، فاعرض علي. فعرض عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقبل. فازدحمنا حوله، فدخل خف بكره في بيت جرذان، فتردى الأعرابي، فانكسرت عنقه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «صدق! والذي بعثني بالحق! لقد خرج من بلاده وتلاده وماله ليهتدي بهداي، ويأخذ من قولي، وما بلغني حتى ما له من طعام إلا من خضر الأرض. أسمعتم بالذي عمل قليلا وأجر كثيرا؟ هذا منهم! أسمعتم ب: الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون ؟ فإن هذا منهم. وفي لفظ قال: هذا عمل قليلا وأجر كثيرا» .
وروى نحوه الإمام عن أحمد مطولا، وفيه بيان قوله: فاعرض علي، ولفظه: جرير بن عبد الله محمدا رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت» قال: قد أقررت. ما الإيمان؟ قال: «تشهد أن لا إله إلا الله، وأن