فإن
nindex.php?page=treesubj&link=28658حال الكافر : لا تخلو من أن يتصور الرسالة أو لا ; فإن لم يتصورها فهو في غفلة عنها وعدم إيمان بها . كما قال : {
nindex.php?page=tafseer&surano=2186&ayano=18ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطا } وقال : {
nindex.php?page=tafseer&surano=1097&ayano=7فانتقمنا منهم فأغرقناهم في اليم بأنهم كذبوا بآياتنا وكانوا عنها غافلين } لكن الغفلة المحضة لا تكون إلا لمن لم تبلغه الرسالة والكفر المعذب عليه لا يكون إلا بعد بلوغ الرسالة .
فلهذا قرن التكذيب بالغفلة وإن تصور ما جاء به الرسول وانصرف فهو معرض عنه كما قال تعالى . {
nindex.php?page=tafseer&surano=2491&ayano=20فإما يأتينكم مني هدى فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى } {
nindex.php?page=tafseer&surano=2492&ayano=20ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا } وكما قال : {
nindex.php?page=tafseer&surano=558&ayano=4رأيت المنافقين يصدون عنك صدودا } وكما قال : {
nindex.php?page=tafseer&surano=179&ayano=2وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا } .
وإن كان مع ذلك لا حظ له ; لا مصدق ولا مكذب ولا محب ولا مبغض فهو في ريب منه كما أخبر بذلك عن حال كثير من الكفار منافق وغيره كما قال : {
nindex.php?page=tafseer&surano=1289&ayano=9إنما يستأذنك الذين لا يؤمنون بالله واليوم الآخر وارتابت قلوبهم فهم في ريبهم يترددون } وكما قال
موسى : {
nindex.php?page=tafseer&surano=1773&ayano=14ألم يأتكم نبأ الذين من قبلكم قوم نوح وعاد وثمود والذين من بعدهم لا يعلمهم إلا الله جاءتهم رسلهم بالبينات فردوا أيديهم في أفواههم وقالوا إنا كفرنا بما أرسلتم به وإنا لفي شك مما تدعوننا إليه مريب } {
nindex.php?page=tafseer&surano=1774&ayano=14قالت رسلهم أفي الله شك فاطر السماوات والأرض يدعوكم ليغفر لكم من ذنوبكم ويؤخركم إلى أجل مسمى قالوا إن أنتم إلا بشر مثلنا تريدون أن تصدونا عما كان يعبد آباؤنا فأتونا بسلطان مبين } {
nindex.php?page=tafseer&surano=1775&ayano=14قالت لهم رسلهم إن نحن إلا بشر مثلكم ولكن الله يمن على من يشاء من عباده وما كان لنا أن نأتيكم بسلطان إلا بإذن الله وعلى الله فليتوكل المؤمنون } .
فأخبر سبحانه : عن
nindex.php?page=treesubj&link=29620مناظرة الكفار للرسل في الربوبية أولا فإنهم في شك من الله الذي يدعونهم إليه وفي النبوة ثانيا بقولهم : {
nindex.php?page=tafseer&surano=1774&ayano=14إن أنتم إلا بشر مثلنا } وهذا بحث كفار الفلاسفة بعينه ; وإن كان مكذبا له فهو التكذيب والتكذيب أخص من الكفر .
nindex.php?page=treesubj&link=29426_29426_28659فكل مكذب لما جاءت به الرسل فهو كافر . وليس كل كافر مكذبا بل قد يكون مرتابا إن كان ناظرا فيه أو معرضا عنه بعد أن لم يكن ناظرا فيه وقد يكون غافلا عنه لم يتصوره بحال لكن عقوبة هذا موقوفة على تبليغ المرسل إليه .
وكل واحد من الأمرين في أن يضم إلى المعرفة المجملة إما تكذيب وإما كفر بلا تكذيب ; واقع كثيرا في سالكي الطريقين النظر في القياس المجرد والعمل بالعبادة المجردة .
مثال ذلك أن كثيرا من النظار أثبت واجب الوجود أو صانع العالم وذهبوا في تعيينه وصفاته مذاهب يضيق هذا الموضع عن تفصيلها - معروفة
[ ص: 80 ] في كتب المقالات من أهل ملتنا وغير أهل ملتنا - مقالات الإسلاميين المصلين ومقالات غيرهم . وكثير من العباد المتأخرين أثبت أيضا ذلك إثباتا مجملا وتوهموا فيه أنواعا من التوهمات الكفرية الذي يصفها عارفوهم .
فمنهم من توهمه الوجود المطلق المشترك بين الموجودات كالإنسان المطلق مع أعيانه وأفراده فإذا تعين الوجود لم يكن إياه إذ المطلق ليس هو المعين كما يقوله
الصدر القونوي .
ومنهم من توهم أن وجود الممكنات هو عين وجوده الفائض عليها كما يذكره صاحب الفصوص .
ومنهم يتوهمه جملة الوجود وكل معين فهو جزء منه كالبحر مع أمواجه وأعضاء الإنسان مع الإنسان . فليس هو ما يختص بكل معين ; لكنه مجموع الكائنات ;
كالعفيف التلمساني وعبد الله الفارسي البلياني ويقولون : إن كل موجود فهو مرتبة من مراتب الوجود أو مظهر من مظاهره بمنزلة أمواج البحر معه وأعضاء الإنسان معه وأجزاء الهوى مع الهواء أو بمنزلة هذا الإنسان وهذا الحيوان مع الحيوان المطلق والإنسان المطلق .
ويقول شاعرهم
ابن إسرائيل : -
وما أنت غير الكون بل أنت عينه ويفهم هذا السر من هو ذائق
وقال : -
وتلتذ إن مرت على جسدي يدي لأني في التحقيق لست سواكم
[ ص: 81 ] ولهذا : ليس عندهم للإنسان غاية وراء نفسه وإنما غايته أن ينكشف الغطاء عن نفسه فيرى أن نفسه هي الحق وكان قبل ذلك محجوبا عنها فلما شاهد الحقيقة رأى أنه هو كما قال
ابن إسرائيل : -
ما بال عيسك لا يقر قرارها ؟ إلا في ضللك لا تني منتقلا
فلسوف تعلم أن سيرك لم يكن إلا إليك إذا بلغت المنزلا
وكما يقول بعضهم : -
وفي كل شيء له آية تدل على أنه عينه الأشياء
والله يقول : {
nindex.php?page=tafseer&surano=6210&ayano=96إن إلى ربك الرجعى } ويقول : {
nindex.php?page=tafseer&surano=5974&ayano=84يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحا } ويقول : {
nindex.php?page=tafseer&surano=1404&ayano=10وردوا إلى الله مولاهم الحق } ويقول : {
nindex.php?page=tafseer&surano=165&ayano=2إنا لله وإنا إليه راجعون } ونحو ذلك .
وقال
التلمساني - وكان راسخ القدم في هذه الزندقة التي أسموا بها التوحيد والحقيقة : -
توهمت قدما أن ليلى تبرقعت وأن حجابا دونها يمنع اللثما
فلاحت فلا والله ما كان حجبها سوى أن طرفي كان عن حبها أعمى
وله شعر كثير في هذا الفن :
هي الجوهر الصرف القديم وإن بدا لها خبث أتيت به فهو حادث
[ ص: 82 ] حلفت لهم ما كان منها غير ذاتها فقالوا اتئد فيها فإنك حانث
وله : وقل لحبيبك مت وجدا وذب طربا فيها وقل لزوال العقل لا تزل
واصمت إلى أن تراها فيك ناطقة فإن وجدت لسانا قائلا فقل
ولهذا : يصلون إلى مقام لا يعتقدون فيه إيجاب الواجبات . وتحريم المحرمات وإنما يرون الإيجاب والتحريم للمحجوبين عندهم الذين لم يشهدوا أنه هو حقيقة الكون ; فمن العابد ؟ ومن المعبود ؟ ومن الآمر ؟ ومن المأمور ؟ كما قال صاحب الفتوحات في أولها : -
الرب حق والعبد حق يا ليت شعري من المكلف ؟
إن قلت عبد فذاك ميت أو قلت رب أنى يكلف ؟
وعندهم أن التكليف هو في مرتبة من مراتب الأسماء والصفات وهو مرتبة الممتحن .
قال بعضهم : -
ما الأمر إلا نسق واحد ما فيه من مدح ولا ذم
وإنما العادة قد خصصت والطبع والشارع بالحكم
[ ص: 83 ] ومنشأ هذين عن الصابئة - كما يبين ذلك عند التأمل - فإن الصابئة الخارجين عن التوحيد لله وحده لا شريك له - كالمشركين والمجوس - مثل
فرعون موسى ونمرود إبراهيم ; وغيرهم من البشر : معترفون بالوجود المطلق .
ولهذا : كان
nindex.php?page=treesubj&link=28627أفضل علوم الفلاسفة هو علم ما بعد الطبيعة أعني بهم
الفلاسفة المشائين الذين يتبعون "
أرسطو " فإنه عندهم المعلم الأول الذي صنف في أنواع التعاليم من أجزاء المنطق والعلم الطبيعي كالحيوان والمكان والسماء والعالم والآثار العلوية وصنف فيما بعد الطبيعة - وهو عندهم غاية حكمتهم ونهاية فلسفتهم - وهو
nindex.php?page=treesubj&link=28627العلم الذي يسميه متأخرو الفلاسفة - nindex.php?page=showalam&ids=13251كابن سينا : ( العلم الإلهي ) . وموضوع هذا العلم عند أصحابه :
هو الوجود المطلق ولواحقه مثل الكلام في الموجود والمعدوم ثم في تقسيم الموجود إلى واجب وممكن . وقديم ومحدث وعلة ومعلول وجوهر وعرض ونحو ذلك .
ثم الكلام في أنواع هذه الأقسام وأحكامها . مثل : تقسيم العلل إلى الأنواع الأربعة وهى : الفاعل والغاية اللذان هما سببان لوجود الشيء والمادة والصورة اللذان هما سببان لحقيقة المركب وتقسيم الأعراض إلى الأجناس المقالية التسعة وهي : الكيف والكم والوضع والأين ومتى والإضافة والملك وأن يفعل وأن ينفعل ; أو جعلها خمسة على ما بينهم من الاختلاف
[ ص: 84 ] وفي آخر علم ما بعد الطبيعة حرف اللام - كأنه هو العلة الغائية الذي إليه الحركة ; كما أثبت المعلم الأول وجوده بطريق الاستدلال بالحركة - الذي تكلم فيه المعلم الأول على واجب الوجود لذاته ; بكلام مختصر ذكر فيه قدرا يسيرا من أحكامه - وهو الذي كان يقول فيه
nindex.php?page=showalam&ids=13251ابن سينا - فهذا ما عند المعلم الأول من معرفة الله .
فَإِنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=28658حَالَ الْكَافِرِ : لَا تَخْلُو مِنْ أَنْ يَتَصَوَّرَ الرِّسَالَةَ أَوْ لَا ; فَإِنْ لَمْ يَتَصَوَّرْهَا فَهُوَ فِي غَفْلَةٍ عَنْهَا وَعَدَمِ إيمَانٍ بِهَا . كَمَا قَالَ : {
nindex.php?page=tafseer&surano=2186&ayano=18وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا } وَقَالَ : {
nindex.php?page=tafseer&surano=1097&ayano=7فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ } لَكِنَّ الْغَفْلَةَ الْمَحْضَةَ لَا تَكُونُ إلَّا لِمَنْ لَمْ تَبْلُغْهُ الرِّسَالَةُ وَالْكُفْرُ الْمُعَذَّبُ عَلَيْهِ لَا يَكُونُ إلَّا بَعْدَ بُلُوغِ الرِّسَالَةِ .
فَلِهَذَا قَرَنَ التَّكْذِيبَ بِالْغَفْلَةِ وَإِنْ تَصَوَّرَ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ وَانْصَرَفَ فَهُوَ مُعْرِضٌ عَنْهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى . {
nindex.php?page=tafseer&surano=2491&ayano=20فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى } {
nindex.php?page=tafseer&surano=2492&ayano=20وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا } وَكَمَا قَالَ : {
nindex.php?page=tafseer&surano=558&ayano=4رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا } وَكَمَا قَالَ : {
nindex.php?page=tafseer&surano=179&ayano=2وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا } .
وَإِنْ كَانَ مَعَ ذَلِكَ لَا حَظَّ لَهُ ; لَا مُصَدِّقَ وَلَا مُكَذِّبَ وَلَا مُحِبَّ وَلَا مُبْغِضَ فَهُوَ فِي رَيْبٍ مِنْهُ كَمَا أَخْبَرَ بِذَلِكَ عَنْ حَالِ كَثِيرٍ مِنْ الْكُفَّارِ مُنَافِقٍ وَغَيْرِهِ كَمَا قَالَ : {
nindex.php?page=tafseer&surano=1289&ayano=9إنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ } وَكَمَا قَالَ
مُوسَى : {
nindex.php?page=tafseer&surano=1773&ayano=14أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَا يَعْلَمُهُمْ إلَّا اللَّهُ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ وَقَالُوا إنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنَا إلَيْهِ مُرِيبٍ } {
nindex.php?page=tafseer&surano=1774&ayano=14قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إلَى أَجَلٍ مُسَمًّى قَالُوا إنْ أَنْتُمْ إلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ } {
nindex.php?page=tafseer&surano=1775&ayano=14قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إنْ نَحْنُ إلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَمَا كَانَ لَنَا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطَانٍ إلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ } .
فَأَخْبَرَ سُبْحَانَهُ : عَنْ
nindex.php?page=treesubj&link=29620مُنَاظَرَةِ الْكُفَّارِ لِلرُّسُلِ فِي الرُّبُوبِيَّةِ أَوَّلًا فَإِنَّهُمْ فِي شَكٍّ مِنْ اللَّهِ الَّذِي يَدْعُونَهُمْ إلَيْهِ وَفِي النُّبُوَّةِ ثَانِيًا بِقَوْلِهِمْ : {
nindex.php?page=tafseer&surano=1774&ayano=14إنْ أَنْتُمْ إلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا } وَهَذَا بَحْثُ كُفَّارِ الْفَلَاسِفَةِ بِعَيْنِهِ ; وَإِنْ كَانَ مُكَذِّبًا لَهُ فَهُوَ التَّكْذِيبُ وَالتَّكْذِيبُ أَخَصُّ مِنْ الْكُفْرِ .
nindex.php?page=treesubj&link=29426_29426_28659فَكُلُّ مُكَذِّبٍ لِمَا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ فَهُوَ كَافِرٌ . وَلَيْسَ كُلُّ كَافِرٍ مُكَذِّبًا بَلْ قَدْ يَكُونُ مُرْتَابًا إنْ كَانَ نَاظِرًا فِيهِ أَوْ مُعْرِضًا عَنْهُ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ نَاظِرًا فِيهِ وَقَدْ يَكُونُ غَافِلًا عَنْهُ لَمْ يَتَصَوَّرْهُ بِحَالِ لَكِنْ عُقُوبَةُ هَذَا مَوْقُوفَةٌ عَلَى تَبْلِيغِ الْمُرْسَلِ إلَيْهِ .
وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْأَمْرَيْنِ فِي أَنْ يُضَمَّ إلَى الْمَعْرِفَةِ الْمُجْمَلَةِ إمَّا تَكْذِيبٌ وَإِمَّا كُفْرٌ بِلَا تَكْذِيبٍ ; وَاقِعٌ كَثِيرًا فِي سَالِكِي الطَّرِيقَيْنِ النَّظَرِ فِي الْقِيَاسِ الْمُجَرَّدِ وَالْعَمَلِ بِالْعِبَادَةِ الْمُجَرَّدَةِ .
مِثَالُ ذَلِكَ أَنَّ كَثِيرًا مِنْ النُّظَّارِ أَثْبَتَ وَاجِبَ الْوُجُودِ أَوْ صَانِعَ الْعَالَمِ وَذَهَبُوا فِي تَعْيِينِهِ وَصِفَاتِهِ مَذَاهِبَ يَضِيقُ هَذَا الْمَوْضِعُ عَنْ تَفْصِيلِهَا - مَعْرُوفَةٌ
[ ص: 80 ] فِي كُتُبِ الْمَقَالَاتِ مِنْ أَهْلِ مِلَّتِنَا وَغَيْرِ أَهْلِ مِلَّتِنَا - مَقَالَاتُ الْإِسْلَامِيِّينَ الْمُصَلِّينَ وَمَقَالَاتُ غَيْرِهِمْ . وَكَثِيرٌ مِنْ الْعِبَادِ الْمُتَأَخِّرِينَ أَثْبَتَ أَيْضًا ذَلِكَ إثْبَاتًا مُجْمَلًا وَتَوَهَّمُوا فِيهِ أَنْوَاعًا مِنْ التَّوَهُّمَاتِ الكفرية الَّذِي يَصِفُهَا عَارِفُوهُمْ .
فَمِنْهُمْ مَنْ تَوَهَّمَهُ الْوُجُودُ الْمُطْلَقُ الْمُشْتَرَكُ بَيْنَ الْمَوْجُودَاتِ كَالْإِنْسَانِ الْمُطْلَقِ مَعَ أَعْيَانِهِ وَأَفْرَادِهِ فَإِذَا تَعَيَّنَ الْوُجُودُ لَمْ يَكُنْ إيَّاهُ إذْ الْمُطْلَقُ لَيْسَ هُوَ الْمُعَيَّنُ كَمَا يَقُولُهُ
الصَّدْرُ القونوي .
وَمِنْهُمْ مَنْ تَوَهَّمَ أَنَّ وُجُودَ الْمُمْكِنَاتِ هُوَ عَيْنُ وُجُودِهِ الْفَائِضِ عَلَيْهَا كَمَا يَذْكُرُهُ صَاحِبُ الْفُصُوصِ .
وَمِنْهُمْ يَتَوَهَّمُهُ جُمْلَةَ الْوُجُودِ وَكُلُّ مُعَيَّنٍ فَهُوَ جُزْءٌ مِنْهُ كَالْبَحْرِ مَعَ أَمْوَاجِهِ وَأَعْضَاءِ الْإِنْسَانِ مَعَ الْإِنْسَانِ . فَلَيْسَ هُوَ مَا يَخْتَصُّ بِكُلِّ مُعَيَّنٍ ; لَكِنَّهُ مَجْمُوعُ الْكَائِنَاتِ ;
كَالْعَفِيفِ التِّلْمِسَانِيِّ وَعَبْدِ اللَّهِ الْفَارِسِيِّ البلياني وَيَقُولُونَ : إنَّ كُلَّ مَوْجُودٍ فَهُوَ مَرْتَبَةٌ مِنْ مَرَاتِبِ الْوُجُودِ أَوْ مَظْهَرٌ مِنْ مَظَاهِرِهِ بِمَنْزِلَةِ أَمْوَاجِ الْبَحْرِ مَعَهُ وَأَعْضَاءِ الْإِنْسَانِ مَعَهُ وَأَجْزَاءِ الْهَوَى مَعَ الْهَوَاءِ أَوْ بِمَنْزِلَةِ هَذَا الْإِنْسَانِ وَهَذَا الْحَيَوَانِ مَعَ الْحَيَوَانِ الْمُطْلَقِ وَالْإِنْسَانِ الْمُطْلَقِ .
وَيَقُولُ شَاعِرُهُمْ
ابْنُ إسْرَائِيلَ : -
وَمَا أَنْتَ غَيْرُ الْكَوْنِ بَلْ أَنْتَ عَيْنُهُ وَيَفْهَمُ هَذَا السِّرَّ مَنْ هُوَ ذَائِقُ
وَقَالَ : -
وَتَلْتَذُّ إنْ مَرَّتْ عَلَى جَسَدِي يَدِي لِأَنِّي فِي التَّحْقِيقِ لَسْت سِوَاكُمْ
[ ص: 81 ] وَلِهَذَا : لَيْسَ عِنْدَهُمْ لِلْإِنْسَانِ غَايَةٌ وَرَاءَ نَفْسِهِ وَإِنَّمَا غَايَتُهُ أَنْ يَنْكَشِفَ الْغِطَاءُ عَنْ نَفْسِهِ فَيَرَى أَنَّ نَفْسَهُ هِيَ الْحَقُّ وَكَانَ قَبْلَ ذَلِكَ مَحْجُوبًا عَنْهَا فَلَمَّا شَاهَدَ الْحَقِيقَةَ رَأَى أَنَّهُ هُوَ كَمَا قَالَ
ابْنُ إسْرَائِيلَ : -
مَا بَالُ عِيسِك لَا يَقَرُّ قَرَارُهَا ؟ إلَّا فِي ضَلَلِك لَا تَنِي مُنْتَقِلًا
فَلَسَوْفَ تَعْلَمُ أَنَّ سَيْرَك لَمْ يَكُنْ إلَّا إلَيْك إذَا بَلَغْت الْمَنْزِلَا
وَكَمَا يَقُولُ بَعْضُهُمْ : -
وَفِي كُلِّ شَيْءٍ لَهُ آيَةٌ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ عَيْنُهُ الْأَشْيَاءُ
وَاَللَّهُ يَقُولُ : {
nindex.php?page=tafseer&surano=6210&ayano=96إنَّ إلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى } وَيَقُولُ : {
nindex.php?page=tafseer&surano=5974&ayano=84يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إنَّكَ كَادِحٌ إلَى رَبِّكَ كَدْحًا } وَيَقُولُ : {
nindex.php?page=tafseer&surano=1404&ayano=10وَرُدُّوا إلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ } وَيَقُولُ : {
nindex.php?page=tafseer&surano=165&ayano=2إنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ } وَنَحْوَ ذَلِكَ .
وَقَالَ
التِّلْمِسَانِيُّ - وَكَانَ رَاسِخَ الْقِدَمِ فِي هَذِهِ الزَّنْدَقَةِ الَّتِي أَسْمَوْا بِهَا التَّوْحِيدَ وَالْحَقِيقَةَ : -
تَوَهَّمْت قِدَمًا أَنَّ لَيْلَى تَبَرْقَعَتْ وَأَنَّ حِجَابًا دُونَهَا يَمْنَعُ اللثما
فَلَاحَتْ فَلَا وَاَللَّهِ مَا كَانَ حَجْبُهَا سِوَى أَنَّ طَرَفِي كَانَ عَنْ حُبِّهَا أَعْمَى
وَلَهُ شِعْرٌ كَثِيرٌ فِي هَذَا الْفَنِّ :
هِيَ الْجَوْهَرُ الصِّرْفُ الْقَدِيمُ وَإِنْ بَدَا لَهَا خُبْثٌ أَتَيْت بِهِ فَهُوَ حَادِثُ
[ ص: 82 ] حَلَفْت لَهُمْ مَا كَانَ مِنْهَا غَيْرُ ذَاتِهَا فَقَالُوا اتَّئِدْ فِيهَا فَإِنَّك حَانِثُ
وَلَهُ : وَقُلْ لِحَبِيبِك مُتْ وَجْدًا وَذُبْ طَرَبًا فِيهَا وَقُلْ لِزَوَالِ الْعَقْلِ لَا تَزُلْ
وَاصْمُتْ إلَى أَنْ تَرَاهَا فِيك نَاطِقَةً فَإِنْ وَجَدْت لِسَانًا قَائِلًا فَقُلْ
وَلِهَذَا : يَصِلُونَ إلَى مَقَامٍ لَا يَعْتَقِدُونَ فِيهِ إيجَابَ الْوَاجِبَاتِ . وَتَحْرِيمَ الْمُحَرَّمَاتِ وَإِنَّمَا يَرَوْنَ الْإِيجَابَ وَالتَّحْرِيمَ لِلْمَحْجُوبِينَ عِنْدَهُمْ الَّذِينَ لَمْ يَشْهَدُوا أَنَّهُ هُوَ حَقِيقَةُ الْكَوْنِ ; فَمَنْ الْعَابِدُ ؟ وَمَنْ الْمَعْبُودُ ؟ وَمَنْ الْآمِرُ ؟ وَمَنْ الْمَأْمُورُ ؟ كَمَا قَالَ صَاحِبُ الْفُتُوحَاتِ فِي أَوَّلِهَا : -
الرَّبُّ حَقٌّ وَالْعَبْدُ حَقٌّ يَا لَيْتَ شِعْرِي مَنْ الْمُكَلَّفُ ؟
إنْ قُلْت عَبْدٌ فَذَاكَ مَيْتٌ أَوْ قَلَتْ رَبٌّ أَنَّى يُكَلَّفُ ؟
وَعِنْدَهُمْ أَنَّ التَّكْلِيفَ هُوَ فِي مَرْتَبَةٍ مِنْ مَرَاتِبِ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ وَهُوَ مَرْتَبَةُ الْمُمْتَحِنِ .
قَالَ بَعْضُهُمْ : -
مَا الْأَمْرُ إلَّا نَسَقٌ وَاحِدُ مَا فِيهِ مِنْ مَدْحٍ وَلَا ذَمٍّ
وَإِنَّمَا الْعَادَةُ قَدْ خَصَّصَتْ وَالطَّبْعُ وَالشَّارِعُ بِالْحُكْمِ
[ ص: 83 ] وَمَنْشَأُ هَذَيْنِ عَنْ الصَّابِئَةِ - كَمَا يُبَيِّنُ ذَلِكَ عِنْدَ التَّأَمُّلِ - فَإِنَّ الصَّابِئَةَ الْخَارِجِينَ عَنْ التَّوْحِيدِ لِلَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ - كَالْمُشْرِكِينَ وَالْمَجُوسِ - مِثْلُ
فِرْعَوْنِ مُوسَى ونمرود إبْرَاهِيمَ ; وَغَيْرِهِمْ مِنْ الْبَشَرِ : مُعْتَرِفُونَ بِالْوُجُودِ الْمُطْلَقِ .
وَلِهَذَا : كَانَ
nindex.php?page=treesubj&link=28627أَفْضَلُ عُلُومِ الْفَلَاسِفَةِ هُوَ عِلْمُ مَا بَعْدَ الطَّبِيعَةِ أَعْنِي بِهِمْ
الْفَلَاسِفَةَ الْمَشَّائِينَ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ "
أَرِسْطُو " فَإِنَّهُ عِنْدَهُمْ الْمُعَلِّمُ الْأَوَّلُ الَّذِي صَنَّفَ فِي أَنْوَاعِ التَّعَالِيمِ مِنْ أَجْزَاءِ الْمَنْطِقِ وَالْعِلْمِ الطَّبِيعِيِّ كَالْحَيَوَانِ وَالْمَكَانِ وَالسَّمَاءِ وَالْعَالَمِ وَالْآثَارِ الْعُلْوِيَّةِ وَصَنَّفَ فِيمَا بَعْدَ الطَّبِيعَةِ - وَهُوَ عِنْدَهُمْ غَايَةُ حِكْمَتِهِمْ وَنِهَايَةُ فَلْسَفَتِهِمْ - وَهُوَ
nindex.php?page=treesubj&link=28627الْعِلْمُ الَّذِي يُسَمِّيه مُتَأَخِّرُو الْفَلَاسِفَةِ - nindex.php?page=showalam&ids=13251كَابْنِ سِينَا : ( الْعِلْمَ الْإِلَهِيَّ ) . وَمَوْضُوعُ هَذَا الْعِلْمِ عِنْدَ أَصْحَابِهِ :
هُوَ الْوُجُودُ الْمُطْلَقُ وَلَوَاحِقُهُ مِثْلُ الْكَلَامِ فِي الْمَوْجُودِ وَالْمَعْدُومِ ثُمَّ فِي تَقْسِيمِ الْمَوْجُودِ إلَى وَاجِبٍ وَمُمْكِنٍ . وَقَدِيمٍ وَمُحْدَثٍ وَعِلَّةٍ وَمَعْلُولٍ وَجَوْهَرٍ وَعَرَضٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ .
ثُمَّ الْكَلَامُ فِي أَنْوَاعِ هَذِهِ الْأَقْسَامِ وَأَحْكَامِهَا . مِثْلُ : تَقْسِيمِ الْعِلَلِ إلَى الْأَنْوَاعِ الْأَرْبَعَةِ وَهَى : الْفَاعِلُ وَالْغَايَةُ اللَّذَانِ هُمَا سَبَبَانِ لِوُجُودِ الشَّيْءِ وَالْمَادَّةُ وَالصُّورَةُ اللَّذَانِ هَمَّا سَبَبَانِ لِحَقِيقَةِ الْمُرَكَّبِ وَتَقْسِيمِ الْأَعْرَاضِ إلَى الْأَجْنَاسِ الْمَقَالِيَّةِ التِّسْعَةِ وَهِيَ : الْكَيْفُ وَالْكَمُّ وَالْوَضْعُ وَالْأَيْنُ وَمَتَى وَالْإِضَافَةُ وَالْمِلْكِ وَأَنْ يَفْعَلَ وَأَنْ يَنْفَعِلَ ; أَوْ جَعَلَهَا خَمْسَةً عَلَى مَا بَيْنَهُمْ مِنْ الِاخْتِلَافِ
[ ص: 84 ] وَفِي آخِرِ عِلْمِ مَا بَعْدَ الطَّبِيعَةِ حَرْفُ اللَّامِ - كَأَنَّهُ هُوَ الْعِلَّةُ الغائية الَّذِي إلَيْهِ الْحَرَكَةُ ; كَمَا أَثْبَتَ الْمُعَلِّمُ الْأَوَّلُ وُجُودَهُ بِطَرِيقِ الِاسْتِدْلَالِ بِالْحَرَكَةِ - الَّذِي تَكَلَّمَ فِيهِ الْمُعَلِّمُ الْأَوَّلُ عَلَى وَاجِبِ الْوُجُودِ لِذَاتِهِ ; بِكَلَامِ مُخْتَصَرٍ ذَكَرَ فِيهِ قَدْرًا يَسِيرًا مِنْ أَحْكَامِهِ - وَهُوَ الَّذِي كَانَ يَقُولُ فِيهِ
nindex.php?page=showalam&ids=13251ابْنُ سِينَا - فَهَذَا مَا عِنْدَ الْمُعَلِّمِ الْأَوَّلِ مِنْ مَعْرِفَةِ اللَّهِ .