[ ص: 65 ] وقال : فصل " قاعدة جامعة " كل واحد من الدين الجامع بين الواجبات وسائر العبادات ومن التحريمات كما قال تعالى : { ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق } وكما قال تعالى : { وقال الذين أشركوا لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شيء نحن ولا آباؤنا ولا حرمنا من دونه من شيء } وكما أخبر عما ذمه من حال المشركين في دينهم وتحريمهم حيث قال : { وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيبا } إلى آخر الكلام فإنه ذكر فيه ما كانوا عليه من العبادات الباطلة من أنواع الشرك ومن الإباحة الباطلة في قتل الأولاد ومن التحريمات الباطلة من السائبة والبحيرة والوصيلة والحام ونحو ذلك . فذم المشركين في عباداتهم وتحريماتهم وإباحتهم . وذم النصارى فيما تركوه من دين الحق والتحريم كما ذمهم على الدين الباطل في قوله : { اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم } وأصناف ذلك .
[ ص: 66 ] فكل واحد من . والمراد بالعقلي ما اتفق عليه أهل العقل من بني آدم سواء كان لهم صلة كتاب أو لم يكن . والمراد بالملي : ما اتفق عليه العبادات وسائر المأمور به من الواجبات والمستحبات . ومن المكروهات المنهي عنها نهي حظر أو نهي تنزيه ينقسم إلى ثلاثة أقسام : عقلي وملي وشرعي أهل الملل والكتب المنزلة ومن اتبعهم والمراد بالشرعي ما اختص به أهل الشريعة القرآنية وهم أمة محمد صلى الله عليه وسلم وأخص من ذلك ما اختص به أهل مذهب أو أهل طريقة من الفقهاء والصوفية ونحو ذلك .
لكن هذا التخصيص والامتياز لا توجبه شريعة الرسول مطلقا وإنما قد توجبه ما قد توجب بتخصيص بعض العلماء والعباد والأمراء في استفتاء أو طاعة كما يجب على أهل كل غزاة طاعة أميرهم وأهل كل قرية استفتاء عالمهم الذي لا يجدون غيره ونحو ذلك وما من أهل شريعة غير المسلمين إلا وفي شرعهم هذه الأقسام الثلاثة فإن مأموراتهم ومنهياتهم تنقسم إلى ما يتفق عليه العقلاء وما يتفق عليه الأنبياء . وأما السياسات الملكية التي لا تتمسك بملة وكتاب : فلا بد فيها من القسم الأول والثالث فإن القدر المشترك بين الآدميين لا بد من الأمر به في كل سياسة وإمامة .
وكذلك ولو لم تكن إلا [ ص: 67 ] رعاية من يواليه ودفع من يعاديه فلا بد لهم من الأمر بما يحفظ الولي ويدفع العدو كما في لا بد لكل ملك من خصيصة يتميز بها مملكة جنكيزخان ملك الترك ونحوه من الملوك .
ثم قد يكون لهم ملة صحيحة توحيدية وقد يكون لهم ملة كفرية وقد لا يكون لهم ملة بحال . ثم قد يكون دينهم مما يوجبونه وقد يكون مما يستحبونه .
ووجه القسمة أن جميع بني آدم العقلاء لا بد لهم من أمور يؤمرون بها وأمور ينهون عنها فإن مصلحتهم لا تتم بدون ذلك ولا يمكن أن يعيشوا في الدنيا بل ولا يعيش الواحد منهم لو انفرد بدون أمور يفعلونها تجلب لهم المنفعة وأمور ينفونها تدفع عنهم المضرة ; بل سائر الحيوان لا بد فيه من قوتي الاجتلاب والاجتناب ومبدؤهما الشهوة والنفرة والحب والبغض فالقسم المطلوب هو المأمور به والقسم المرهوب هو المنهي عنه .
فإما أن تكون تلك الأمور متفقا عليها بين العقلاء - بحيث لا يلتفت إلى الشواذ منهم الذين خرجوا عند الجمهور عن العقل - وإما أن لا تكون كذلك وما ليس كذلك فإما أن يكون متفقا عليه بين الأنبياء والمرسلين . وإما أن يختص به أهل شريعة الإسلام .
[ ص: 68 ] فالقسم الأول : الطاعات العقلية - وليس الغرض بتسميتها عقلية إثبات كون العقل يحسن ويقبح على الوجه المتنازع فيه ; بل الغرض وإنما الغرض اتفاق العقلاء على مدحها - مثل الصدق والعدل وأداء الأمانة والإحسان إلى الناس بالمال والمنافع ومثل العلم والعبادة المطلقة والورع المطلق والزهد المطلق مثل جنس التأله والعبادة والتسبيح والخشوع والنسك المطبق بحيث لا يمنع القدر المشترك أن يكون لأي معبود كان وبأي عبادة كانت فإن هذا الجنس متفق عليه بين الآدميين ما منهم إلا من يمدح جنس التأله مع كون بعضه فيه ما يكون صالحا حقا وبعضه فيه ما يكون فاسدا باطلا . ما اتفق عليه المسلمون وغيرهم من التحسين والتقبيح العقلي الذي هو جلب المنافع ودفع المضار
وكذلك الورع المشترك مثل الكف عن قتل النفس مطلقا وعن الزنا مطلقا وعن ظلم الخلق . وكذلك الزهد المشترك مثل الإمساك عن فضول الطعام واللباس وهذا القسم إنما عبر أهل العقل باعتقاد حسنه ووجوبه ; لأن مصلحة دنياهم لا تتم إلا به وكذلك مصلحة دينهم سواء كان دينا صالحا أو فاسدا .
ثم هذه قسمان : [ ص: 69 ] أحدهما : ما هو نوع واحد لا يختلف أصلا كالعلم والصدق وهما تابعان للحق الموجود ومنها ما هو جنس تختلف أنواعه كالعدل وأداء الأمانة والصلاة والصيام والنسك والزهد والورع ونحو ذلك فإنه قد يكون العدل في ملة وسياسة خلاف العدل عند آخرين كقسمة المواريث مثلا وهذه الأمور تابعة للحق المقصود . الطاعات والعبادات العقلية
لكن قد يقال : الناس وإن اتفقوا على أن العلم يجب أن يكون مطابقا للمعلوم وأن الخبر مطابق للمخبر ; لكن هم مختلفون في المطابقة اختلافا كثيرا جدا فإن منهم من يعد مطابقا علما وصدقا ما يعده الآخر مخالفا : جهلا وكذبا ; لا سيما في الأمور الإلهية فكذلك العدل هم متفقون على أنه يجب فيه التسوية بين المتماثلين ; لكن يختلفون في الاستواء والموافقة والتماثل فكل واحد من العلم والصدق والعدل لا بد فيه من موافقة ومماثلة واعتبار ومقايسة . لكن يختلفون في ذلك فيقال : هذا صحيح ; لكن الموافقة العلمية والصدقية هي بحسب وجود الشيء في نفسه وهو الحق الموجود فلا يقف على أمر وإرادة وأما الموافقة العدلية فبحسب ما يجب قصده وفعله وهذا يقف على القصد والأمر الذي قد يتنوع بحسب الأحوال .
ولهذا لم تختلف الشرائع في جنس العلم والصدق كما اختلفت في جنس العدل وأما جنس العبادات كالصلاة والصيام والنسك والورع عن [ ص: 70 ] السيئات وما يتبع ذلك من زهد ونحو ذلك فهذا مختلف اختلافا كثيرا ; وإن كان يجمع جنس الصلاة التأله بالقلب والتعبد للمعبود ويجمع جنس الصوم الإمساك عن الشهوات من الطعام والشراب والنكاح على اختلاف أنواع ذلك وكذلك أنواع النسك بحسب الأمكنة التي تقصد وما يفعل فيها وفي طريقها ; لكن تجتمع هذه الأنواع في جنس العبادة وهو تأله القلب بالمحبة والتعظيم وجنس الزهادة وهو الإعراض عن الشهوات البدنية وزينة الحياة الدنيا وهما جنس نوعي الصلاة والصيام .
القسم الثاني : والتحريمات مثل عبادة الله وحده لا شريك له بالإخلاص والتوكل والدعاء والخوف والرجاء وما يقترن بذلك من الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله والبعث بعد الموت . وتحريم الشرك به وعبادة ما سواه وتحريم الإيمان بالجبت وهو السحر والطاغوت وهو الأوثان ونحو ذلك . الطاعات الملية من العبادات وسائر المأمور به
وهذا القسم : هو الذي حضت عليه الرسل ووكدت أمره وهو أكبر المقاصد بالدعوة فإن القسم الأول : يظهر أمره ومنفعته بظاهر العقل وكأنه في الأعمال مثل العلوم البديهية .
[ ص: 71 ] والقسم الثالث : تكملة وتتميم لهذا القسم الثاني . فإن الأول كالمقدمات والثالث كالمعقبات وأما الثاني : فهو المقصود بخلق الناس كما قال تعالى : { وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون } وذلك لأن التعبد المطلق والتأله المطلق يدخل فيه الإشراك بجميع أنواعه كما عليه المشركون من سائر الأمم وكان التأله المطلق هو دين الصابئة ودين التتار ونحوهم مثل الترك فإنهم كانوا يعبدون الله وحده تارة ويبنون له هيكلا يسمونه هيكل العلة الأولى ويعبدون ما سواه تارة من الكواكب السبعة والثوابت وغيرها بخلاف المشركة المحضة فإنهم لا يعبدون الله وحده قط فلا يعبدونه إلا بالإشراك بغيره من شركائهم وشفعائهم .
والصابئون : منهم [ من ] يعبده مخلصا له الدين ومنهم من يشرك به والحنفاء كلهم يخلص له الدين ; فلهذا صار الصابئون فيهم من يؤمن بالله واليوم الآخر ويعمل صالحا ; بخلاف المشركين والمجوس ولهذا كان رأس دين الإسلام الذي بعث به خاتم المرسلين كلمتين : شهادة أن لا إله إلا الله تثبت التأله الحق الخالص وتنفي ما سواه من تأله المشركين أو تأله مطلق قد يدخل فيه تأله المشركين فأخرجت هذه الكلمة كل تأله ينافي الملي من التأله المختص بالكفار أو المطلق المشترك .
[ ص: 72 ] والكلمة الثانية : شهادة أن محمدا رسول الله وهي توجب التأله الشرعي النبوي وتنفي ما كان من العقلي والملي والشرعي خارجا عنه .
القسم الثالث : الطاعات الشرعية التي تختص بشريعة القرآن مثل خصائص الصلوات الخمس وخصائص صوم شهر رمضان وحج البيت العتيق . وفرائض الزكوات وأحكام المعاملات والمناكحات ومقادير العقوبات . ونحو ذلك من العبادات الشرعية وسائر ما يؤمر به من الشرعية وسائر ما ينهى عنه .
فصل إذا تبين ذلك فغالب الفقهاء إنما يتكلمون به في وغالب الطاعات الشرعية مع العقلية الصوفية إنما يتبعون الطاعات الملية مع العقلية وغالب المتفلسفة يقفون على الطاعات العقلية .
ولهذا كثر في المتفقهة من ينحرف عن طاعات القلب وعباداته : من الإخلاص لله والتوكل عليه والمحبة له . والخشية له ونحو ذلك .
[ ص: 73 ] وكثر في المتفقرة والمتصوفة من ينحرف عن الطاعات الشرعية فلا يبالون إذا حصل لهم توحيد القلب وتألهه أن يكون ما أوجبه الله من الصلوات وشرعه من أنواع القراءة والذكر والدعوات أن يتناولوا ما حرم الله من المطاعم وأن يتعبدوا بالعبادات البدعية من الرهبانية ونحوها ويعتاضوا بسماع المكاء والتصدية عن سماع القرآن وأن يقفوا مع الحقيقة القدرية معرضين عن الأمر والنهي ; فإن كل ما خلقه الله فهو دال على وحدانيته وقائم بكلماته التامات التي لا يجاوزها بر ولا فاجر وصادر عن مشيئته النافذة ومدبر بقدرته الكاملة . فقد يحصل للإنسان تأله ملي فقط ولا بد فيه من العقلي والملي وهو ما جاءت به الرسل بحيث ينيب إلى الله ويحبه ويتوكل عليه ويعرض عن الدنيا ; لكن لا يقف عند المشروع من الأفعال الظاهرة فعلا وتركا وقد يحصل العكس بحيث يقف عند المشروع من الأفعال الظاهرة من غير أن يحصل لقلبه إنابة وتوكل ومحبة وقد يحصل التمسك بالواجبات العقلية . من الصدق والعدل وأداء الأمانة ونحو ذلك من غير محافظة على الواجبات الملية والشرعية .
وهؤلاء الأقسام الثلاثة إذا كانوا مؤمنين مسلمين ; فقد شابوا الإسلام إما بيهودية وإما بنصرانية وإما بصابئية ; إذا كان ما انحرفوا إليه مبدلا منسوخا وإن كان أصله مشروعا فموسوية أو عيسوية .