[ ص: 282 ] ( فصل ) ولا يجوز كالمسائل التي تنازع فيها أهل القبلة فإن الله تعالى قال { تكفير المسلم بذنب فعله ولا بخطأ أخطأ فيه آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير } وقد ثبت في الصحيح أن الله تعالى أجاب هذا الدعاء وغفر للمؤمنين خطأهم .
والخوارج المارقون الذين أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتالهم قاتلهم أمير المؤمنين أحد الخلفاء الراشدين . علي بن أبي طالب
واتفق على قتالهم أئمة الدين من الصحابة والتابعين ومن بعدهم .
ولم يكفرهم علي بن أبي طالب وسعد بن أبي وقاص وغيرهما من الصحابة بل جعلوهم مسلمين مع قتالهم ولم يقاتلهم علي حتى سفكوا الدم الحرام وأغاروا على أموال المسلمين فقاتلهم لدفع ظلمهم وبغيهم لا لأنهم كفار .
ولهذا لم يسب حريمهم ولم يغنم أموالهم .
وإذا كان هؤلاء الذين ثبت ضلالهم بالنص والإجماع لم يكفروا مع أمر الله ورسوله بقتالهم فكيف بالطوائف المختلفين الذين اشتبه عليهم الحق في مسائل غلط فيها من هو أعلم منهم ؟ فلا يحل لأحد من هذه [ ص: 283 ] الطوائف أن تكفر الأخرى ولا تستحل دمها ومالها وإن كانت فيها بدعة محققة فكيف إذا كانت المكفرة لها مبتدعة أيضا ؟ وقد تكون بدعة هؤلاء أغلظ والغالب أنهم جميعا جهال بحقائق ما يختلفون فيه .
والأصل أن لا تحل إلا بإذن الله ورسوله . دماء المسلمين وأموالهم وأعراضهم محرمة من بعضهم على بعض
قال النبي صلى الله عليه وسلم لما خطبهم في حجة الوداع " { } " وقال " { إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في بلدكم هذا في شهركم هذا } " . كل المسلم على المسلم حرام : دمه وماله وعرضه
وقال " { } " وقال " { من صلى صلاتنا واستقبل قبلتنا وأكل ذبيحتنا فهو المسلم له ذمة الله ورسوله } " وقال : " { إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار قيل يا رسول الله هذا القاتل فما بال المقتول ؟ قال : إنه أراد قتل صاحبه } " وقال " { لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض } " وهذه الأحاديث كلها في الصحاح . إذا قال المسلم لأخيه يا كافر فقد باء بها أحدهما
وإذا كان المسلم متأولا في القتال أو التكفير لم يكفر بذلك كما { عمر بن الخطاب لحاطب بن أبي بلتعة : يا رسول الله دعني أضرب عنق هذا المنافق فقال النبي صلى الله عليه وسلم إنه قد شهد بدرا وما يدريك أن الله قد اطلع [ ص: 284 ] على أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم ؟ } وهذا في الصحيحين . قال
وفيهما أيضا : من حديث الإفك : { . أسيد بن الحضير
قال لسعد بن عبادة : إنك منافق تجادل عن المنافقين واختصم الفريقان فأصلح النبي صلى الله عليه وسلم بينهم } . أن
فهؤلاء البدريون فيهم من قال لآخر منهم : إنك منافق ولم يكفر النبي صلى الله عليه وسلم لا هذا ولا هذا بل شهد للجميع بالجنة .
وكذلك ثبت في الصحيحين عن { أنه قتل رجلا بعد ما قال لا إله إلا الله وعظم النبي صلى الله عليه وسلم ذلك لما أخبره وقال يا أسامة بن زيد أسامة أقتلته بعد ما قال لا إله إلا الله ؟ وكرر ذلك عليه حتى قال أسامة : تمنيت أني لم أكن أسلمت إلا يومئذ } .
ومع هذا لم يوجب عليه قودا ولا دية ولا كفارة لأنه كان متأولا ظن جواز قتل ذلك القائل لظنه أنه قالها تعوذا .
فهكذا السلف قاتل بعضهم بعضا من أهل الجمل وصفين ونحوهم وكلهم مسلمون مؤمنون كما قال تعالى : { وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن الله يحب المقسطين } فقد بين الله تعالى أنهم مع اقتتالهم وبغي بعضهم على بعض إخوة مؤمنون وأمر بالإصلاح بينهم بالعدل .
[ ص: 285 ] ولهذا كان السلف مع الاقتتال يوالي بعضهم بعضا موالاة الدين ، لا يعادون كمعاداة الكفار فيقبل بعضهم شهادة بعض ويأخذ بعضهم العلم عن بعض ويتوارثون ويتناكحون ويتعاملون بمعاملة المسلمين بعضهم مع بعض ، مع ما كان بينهم من القتال والتلاعن وغير ذلك .
وقد ثبت في الصحيح أن { } " وأخبر أن الله لا يسلط عليهم عدوا من غيرهم يغلبهم كلهم حتى يكون بعضهم يقتل بعضا وبعضهم يسبي بعضا . النبي صلى الله عليه وسلم سأل ربه أن لا يهلك أمته بسنة عامة فأعطاه ذلك وسأله أن لا يسلط عليهم عدوا من غيرهم فأعطاه ذلك وسأله أن لا يجعل بأسهم بينهم فلم يعط ذلك
وثبت في الصحيحين { قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا من فوقكم } قال أعوذ بوجهك { أو من تحت أرجلكم } قال أعوذ بوجهك { أو يلبسكم شيعا ويذيق بعضكم بأس بعض } قال هاتان أهون } " . لما نزل قوله تعالى {
هذا مع أن وقال : { الله أمر بالجماعة والائتلاف ونهى عن البدعة والاختلاف إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء } وقال النبي صلى الله عليه وسلم " { } " وقال : " { عليكم بالجماعة فإن يد الله على الجماعة } " وقال : " { الشيطان [ ص: 286 ] مع الواحد وهو من الاثنين أبعد } " . الشيطان ذئب الإنسان كذئب الغنم والذئب إنما يأخذ القاصية والنائية من الغنم
فالواجب على ولا يعاديهم وإن رأى بعضهم ضالا أو غاويا وأمكن أن يهديه ويرشده فعل ذلك وإلا فلا يكلف الله نفسا إلا وسعها وإذا كان قادرا على أن يولي في إمامة المسلمين الأفضل ولاه وإن قدر أن يمنع من يظهر البدع والفجور منعه . المسلم إذا صار في مدينة من مدائن المسلمين أن يصلي معهم الجمعة والجماعة ويوالي المؤمنين
وإن لم يقدر على ذلك فالصلاة خلف الأعلم بكتاب الله وسنة نبيه الأسبق إلى طاعة الله ورسوله أفضل كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح : " {
فإن كانوا في الهجرة سواء فأقدمهم سنا } " . يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله ، فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسنة فإن كانوا في السنة سواء فأقدمهم هجرة .
وإن كان في مصلحة راجحة هجره كما هجر النبي صلى الله عليه وسلم الثلاثة الذين خلفوا حتى تاب الله عليهم . هجره لمظهر البدعة والفجور
وأما إذا ولى غيره بغير إذنه وليس في ترك الصلاة خلفه مصلحة شرعية كان تفويت هذه الجمعة والجماعة جهلا وضلالا وكان قد رد بدعة ببدعة .
حتى إن اختلف الناس في إعادته الصلاة وكرهها أكثرهم حتى قال المصلي الجمعة خلف الفاجر في رواية أحمد بن حنبل عبدوس : من أعادها فهو مبتدع .
وهذا أظهر القولين لأن الصحابة لم يكونوا يعيدون الصلاة إذا صلوا خلف [ ص: 287 ] أهل الفجور والبدع ولم يأمر الله تعالى قط أحدا إذا صلى كما أمر بحسب استطاعته أن يعيد الصلاة .
ولهذا كان أصح قولي العلماء أن من صلى بحسب استطاعته أن لا يعيد حتى والمعتادة والمتصلة والمنقطعة لا يجب على أحد منهم أن يعيد الصلاة إذا صلى الأولى بحسب استطاعته . المتيمم لخشية البرد ومن عدم الماء والتراب إذا صلى بحسب حاله والمحبوس وذووا الأعذار النادرة
وقد ثبت في الصحيح أن الصحابة صلوا بغير ماء ولا تيمم لما فقدت عائشة عقدها ولم يأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بالإعادة بل أبلغ من ذلك أن من كان لم يأمره بالقضاء يترك الصلاة جهلا بوجوبها فعمرو وعمار لما أجنبا وعمرو لم يصل وعمار تمرغ كما تتمرغ الدابة لم يأمرهما بالقضاء لما كان يجنب ولا يصلي لم يأمره بالقضاء والمستحاضة لما استحاضت حيضة شديدة منكرة منعتها الصلاة والصوم لم يأمرها بالقضاء . وأبو ذر
والذين لم يأمرهم بالقضاء وكانوا قد غلطوا في معنى الآية فظنوا أن قوله تعالى { أكلوا في رمضان حتى يتبين لأحدهم الحبل الأبيض من الحبل الأسود حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر } هو الحبل فقال النبي صلى الله عليه وسلم " { } " ولم يأمرهم بالقضاء ، إنما هو سواد الليل وبياض النهار لم يأمره بإعادة ما تقدم من الصلوات والذين صلوا إلى والمسيء في صلاته بيت المقدس بمكة والحبشة وغيرهما بعد أن نسخت ( بالأمر بالصلاة إلى الكعبة وصاروا يصلون إلى الصخرة حتى بلغهم [ ص: 288 ] النسخ لم يأمرهم بإعادة ما صلوا وإن كان هؤلاء أعذر من غيرهم لتمسكهم بشرع منسوخ .