الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.
اختيار هذا الخط
الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.
[ ص: 189 ] وسئل رحمه الله عن وقف إنسان شيئا على زيد ثم على أولاد زيد الثمانية فمات واحد من أولاد زيد الثمانية المعينين في حال حياة زيد وترك ولدا ثم مات زيد . فهل ينتقل إلى ولد ولد زيد ما استحقه ولد زيد لو كان حيا ؟ أم يختص الجميع بأولاد زيد ؟
فأجاب : نعم يستحق ولد الولد ما كان يستحقه والده ولا ينتقل ذلك إلى أهل طبقة الميت ما بقي من ولده وولد ولده أحد وذلك لأن قول الواقف : على زيد ثم على أولاده ثم أولاد أولاده . فيه للفقهاء من أصحاب nindex.php?page=showalam&ids=12251الإمام أحمد وغيرهم عند الإطلاق قولان . أحدهما : أنه لترتيب الجملة على الجملة كالمشهور في قوله : على زيد وعمرو ثم على المساكين . والثاني : أنه لترتيب الأفراد على الأفراد كما في قوله تعالى { nindex.php?page=tafseer&surano=509&ayano=4ولكم نصف ما ترك أزواجكم } أي لكل واحد نصف ما تركته زوجته . وكذلك قوله : { nindex.php?page=tafseer&surano=520&ayano=4حرمت عليكم أمهاتكم } أي حرمت على كل واحد أمه ; إذ [ ص: 190 ] مقابلة الجمع بالجمع تقتضي توزيع الأفراد على الأفراد كما في قوله : لبس الناس ثيابهم وركب الناس دوابهم .
وهذا المعنى هو المراد في صورة السؤال قطعا ; إذ قد nindex.php?page=treesubj&link=4266صرح الواقف بأن من مات من هؤلاء عن ولد انتقل نصيبه إلى ولده فصار المراد ترتيب الأفراد على الأفراد في هذه الصورة المقيدة بلا خلاف ; إذ الخلاف إنما هو مع الإطلاق . وإذا كان كذلك فاستحقاق المرتب في الشرع والشرط في الوصية والوقف وغير ذلك إنما يشترط في انتقاله إلى الثاني عدم استحقاق الأول سواء كان قد وجد واستحق أو وجد ولم يستحق أو لم يوجد بحال كما في قول الفقهاء في ترتيب العصبات وأولياء النكاح والحضانة وغيرهم فيستحق ذلك الابن ثم ابنه وإن سفل ثم الأب ثم أبوه وإن علا فإن الأقرب إذا عدم أو كان ممنوعا لكفر أو رق انتقل الحق إلى من يليه . ولا يشترط في انتقال الحق إلى من يليه أن يكون الأول قد استحق .
وكذلك لو قال : النظر في هذا لفلان ثم لفلان أو لابنه . فمتى انتفى النظر عن الأول لعدمه أو جنونه أو كفره انتقل إلى الثاني سواء كان ولدا أو غير ولد . وكذلك ترتيب العصبة في الميراث وفي الإرث بالولاء وفي الحصانة وغير ذلك . [ ص: 191 ] وكذلك في الوقف : لو وقف على أولاده طبقة بعد طبقة عصبتهم وشرط أن يكونوا عدولا ; أو فقراء أو غير ذلك وانتفى شرط الاستحقاق في واحد من الطبقة الأولى أو كلهم . انتقل الحق عند عدم استحقاق الأول إلى الطبقة الثانية إذا كانوا متصفين بالاستحقاق . وسر ذلك أن nindex.php?page=treesubj&link=4266الطبقة الثانية تتلقى الوقف من الواقف ; لا من الطبقة الأولى ; لكن تلقيهم ذلك مشروط بعدم الأولى كما أن العصبة البعيدة تتلقى الإرث من الميت ; لا من العاصب القريب ; لكن شرط استحقاقه عدم العاصب القريب . وكذلك الولاء - في القول المشهور عند الأئمة - يرث به أقرب عصبة الميت يوم موت المعتق ; لأنه يورث كما يورث المال . وإنما يغلط ذهن بعض الناس في مثل هذا حيث يظن أن الولد يأخذ هذا الحق إرثا عن أبيه أو كالإرث ; فيظن أن الانتقال إلى الثانية مشروط باستحقاق الأولى كما ظن ذلك بعض الفقهاء .
فيقول : إذا لم يكن الأب قد ترك شيئا لم يرثه الابن . وهذا غلط ; فإن الابن لا يأخذ ما يأخذ الأب بحال ولا يأخذ عن الأب شيئا ; إذ لو كان الأب موجودا لكان يأخذ الريع مدة حياته ثم ينتقل إلى ابنه الريع الحادث بعد موت الأب ; لا الريع الذي يستحقه ; وأما رقبة الوقف فهي باقية على حالها : حق الثاني فيها في وقته نظير حق الأول في وقته لم ينتقل إليهم إرثا . [ ص: 192 ] ولهذا nindex.php?page=treesubj&link=4266اتفق المسلمون في طبقات الوقف أنه لو انتفت الشروط في الطبقة الأولى أو بعضهم لم يلزم حرمان الطبقة الثانية إذا كانت الشروط موجودة فيهم ; وإنما نازع بعضهم فيما إذا عدموا قبل زمن الاستحقاق . ولا فرق بين الصورتين . ويبين هذا أنه لو قيل بانتقال نصيب الميت إلى إخوته لكونه من الطبقة كان ذلك مستلزما لترتيب جملة الطبقة على الطبقة ; أو أن بعض الطبقة الثانية أو كلهم لا يستحق إلا مع عدم جميع الطبقة الأولى .
ونص الواقف يبين أنه أراد ترتيب الأفراد على الأفراد ; مع أنا نذكر في الإطلاق قولين : الأقوى ترتيب الأفراد مطلقا ; إذ هذا هو المقصود من هذه العبارة ; وهم يختارون تقديم ولد الميت على أخيه فيما يرثه أبوه فإنه يقدم الولد على الأخ . وإن قيل بأن الوقف في هذا منقطع فقد صرح هذا الواقف بالألفاظ الدالة على الاتصال فتعين أن ينتقل نصيبه إلى ولده . وفي الجملة فهذا مقطوع به ; لا يقبل نزاعا فقهيا ; وإنما يقبل نزاعا غلطا . وقول الواقف : فمن مات من أولاد زيد أو أولاد أولاده وترك ولدا أو ولد ولد وإن سفل : كان نصيبه إلى ولد ولده أو ولد ولد ولده . يقال فيه : إما أن يكون قوله : نصيبه . يعم النصيب الذي يستحقه إذا كان متصفا بصفة الاستحقاق سواء استحقه أو لم يستحقه ولا يتناول إلا ما استحقه . فإن كان الأول فلا كلام وهو الأرجح لأنه بعد موته ليس هو في هذه الحال مستحقا له ; ولأنه لو كان الأب ممنوعا لانتفاء [ ص: 193 ] صفة مشروطة فيه مثلا : مثل أن يشترط فيهم الإسلام أو العدالة أو الفقر كان ينتقل مع وجود المانع إلى ولده كما ينتقل مع عدمه ; ولأن الشيء يضاف إلى الشيء بأدنى ملابسة فيصدق أن يقال : نصيبه بهذا الاعتبار ; ولأن حمل اللفظ على ذلك . يقتضي أن يكون كلام الواقف متناولا لجميع الصور الواقعة فهو أولى من حمله على الإخلال بذكر البعض ; ولأنه يكون مطابقا للترتيب الكلامي ; وليس ذلك هو المفهوم من ذلك عند العامة الشارطين مثل هذا . وهذا أيضا موجب الاعتبار والقياس النظري عند الناس في شروطهم إلى استحقاق ولد الولد الذي يكون يتيما لم يرث هو وأبوه من الجد شيئا فيرى الواقف أن يجبره بالاستحقاق حينئذ ; فإنه يكون لاحقا فيما ورث أبوه من التركة وانتقل إليه الإرث . وهذا الذي يقصده الناس موافق لمقصود الشارع أيضا ; ولهذا يوصون كثيرا بمثل هذا الولد . وإن قيل : إن هذا اللفظ لا يتناول إلا ما استحقه كان هذا مفهوم منطوق خرج مخرج الغالب فلا مفهوم له وإذا لم يكن له مفهوم كان مسكوتا عنه في هذا الموضع ; ولكن قد يتناوله في قوله : على زيد ثم على أولاده ثم على أولاد أولادهم .
فإنا ذكرنا أن موجب هذا اللفظ مع ما ذكر بعده من أن الميت ينتقل نصيبه إلى ولده صريح في أن المراد ترتيب الأفراد على الأفراد . والتقدير على زيد ثم على أولاده ثم على ولد كل واحد [ ص: 194 ] بعد والده وهذا اللفظ يوجب أن يستحق كل واحد ما كان أبوه مستحقه لو كان متصفا بصفة الاستحقاق كما يستحق ذلك أهل طبقاته . وهذا متفق عليه بين علماء المسلمين في أمثال ذلك شرعا وشرطا وإذا كان هذا موجب استحقاق الولد وذلك التفصيل إما أن يوجب استحقاق الولد أيضا . وهو الأظهر . أو لا يوجب حرمانه فيقر العمل بالدليل السالم عن المعارض المقاوم . والله أعلم .