[ ص: 229 ] فصل وإذا كان يجوز في ظاهر مذهبه في المسجد الموقوف الذي يوقف للانتفاع بعينه وعينه محترمة شرعا : يجوز أن يبدل به غيره للمصلحة - لكون البدل أنفع وأصلح ; وإن لم تتعطل منفعته بالكلية ويعود الأول طلقا ; مع أنه مع تعطل نفعه بالكلية : هل يجوز بيعه ؟ عنه فيه روايتان - فلأن يجوز الإبدال بالأصلح والأنفع فيما يوقف للاستغلال أولى وأحرى ; فإنه عنده يجوز قولا واحدا وفي بيع ما يوقف للاستغلال للحاجة روايتان . فإذا جوز على ظاهر مذهبه أن يجعل المسجد الأول طلقا ويوقف مسجد بدله للمصلحة وإن لم تتعطل منفعة الأول : فلأن يجوز أن يجعل الموقوف للاستغلال طلقا ويوقف بدله أصلح منه وإن لم تتعطل منفعة الأول أحرى ; فإن بيع الوقف المستغل أولى من بيع المسجد وإبداله أولى من إبدال المسجد لأن المسجد تحترم عينه شرعا ويقصد الانتفاع بعينه : فلا يجوز إجارته ولا المعاوضة عن منفعته ; بخلاف وقف الاستغلال ; فإنه يجوز إجارته والمعاوضة عن نفعه ; وليس المقصود أن يستوفي الموقوف عليه منفعته بنفسه كما يقتصد مثل ذلك في المسجد ولا له حرمة شرعية لحق الله تعالى كما للمسجد . بيع المسجد للحاجة
[ ص: 230 ] وأيضا فالوقف لله فيه شبه من التحرير وشبه من التمليك وهو أشبه بأم الولد عند من يمنع نقل الملك فيها ; فإن الوقف من جهة كونه لا يبيعه أحد يملك ثمنه ولا يهبه ولا يورث عنه : يشبه التحرير والإعتاق . ومن جهة أنه يقبل المعارضة بأن يأخذ عوضه فيشتري به ما يقوم مقامه : يشبه التمليك ; فإنه إذا أتلف ضمن بالبدل واشترى بثمنه ما يقوم مقامه عند عامة العلماء بخلاف المعتق ; فإنه صار حرا لا يقبل المعاوضة . فالبيع الثابت في الطلق لا يثبت في الوقف بحال وهو أن يبيعه المالك أو وليه أو وكيله ويملك عوضه : من غير بدل يقوم مقامه . وهذا هو البيع الذي تقرن به الهبة والإرث كما قال في وقفه : لا يباع ولا يوهب ولا يورث . ويشبه هذا أن عمر بن الخطاب عمر بن الخطاب - رضي الله عنهما - جعلا وعثمان بن عفان : كأرض السواد وغيرها ولم يقسما شيئا مما فتح عنوة . و [ لما ] كانوا يمنعون من شرائها ; لئلا يقر المسلم بالصغار - فإن الخراج كالجزية أو يبطل حق المسلمين - ظن بعض العلماء أنهم منعوا بيعها لكونها وقفا والوقف لا يباع وزعموا أن ذلك يوجب أن الأرض المفتوحة عنوة فيئا للمسلمين مكة لا تباع لكونها فتحت عنوة .
وهذا غلط ; فإن أرض الخراج المفتوحة عنوة المجعولة فيئا توهب وتورث ; فإنها تنتقل عمن هي بيده إلى وارثه ويهبها . وهذا ممتنع في الوقف . وإذا بيعت لمن يقوم فيها مقام البائع ولم يغير شيئا : فهذه المسألة تعلقت الأحكام الشرعية بأعيانها وما سواها تعلقت بجنسه ; لا بعينه فيؤدى خراجها فلم يكن في ذلك ضرر على مستحقها ولا زال حقهم عنها [ ص: 231 ] والوقف إنما منع بيعه لئلا يبطل حق مستحقيه . وهذه يجوز فيها إبدال شخص بشخص بالاتفاق فسواء كان بطريق المعاوضة أو غيرها . والمقصود هنا : أن الوقف فيه شوب التحرير والتمليك ; ولهذا اختلف الفقهاء في ؟ على قولين مشهورين ; بخلاف الوقف على جهة عامة كالمساجد . والوقف على المعين أقرب إلى التمليك من وقف المساجد ونحوها مما يوقف على جهة عامة ; ووقف المساجد أشبه بالتحرير من غيرها ; فإنها خالصة لله عز وجل كما قال تعالى : { الوقف على المعين : هل يفتقر إلى قبوله كالهبة ; أو لا يفتقر إلى قبوله كالعتق وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحدا } وقال تعالى : { ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله شاهدين على أنفسهم بالكفر أولئك حبطت أعمالهم وفي النار هم خالدون } { إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر وأقام الصلاة وآتى الزكاة ولم يخش إلا الله فعسى أولئك أن يكونوا من المهتدين } والمساجد بيوت الله كما أن العتيق صار حرا أي خالصا لله .
" والتحرير " التخليص من الرق ومنه الطين الحر وهو الخالص . فالعتق تخليص العبد لله . ولهذا منع الشارع أن يجعل بعض مملوكه حرا وبعضه رقيقا وقال : " ليس لله شريك " فإذا أعتق بعضه عتق جميعه وفي الصحيحين عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " { وكان له مال يبلغ ثمن العبد قوم عليه قيمة عدل فأعطى شركاءه حصصهم وعتق عليه العبد أعتق شركا له في عبد } " وكذلك [ ص: 232 ] في الصحيحين مثله من حديث من . فأوجب تكميل عتقه ; وإن كان ملكا لغيره وألزم المعتق بأن يعطي شركاءه حصصهم من الثمن ; لتكميل عتق العبد لئلا يكون لله شريك . ومذهب الأئمة الأربعة وسائر الأمة وجوب تكميل العتق ; لكن الجمهور يقولون : إذا كان موسرا ألزم بالعوض كما في حديث أبي هريرة ابن عمر ; وإن كان معسرا : فمنهم من قال بالسعاية : بأن يستسعى العبد وهو مذهب وأبي هريرة أبي حنيفة وأحمد في إحدى الروايتين : اختارها . أبو الخطاب
ومنهم من لا يقول بها وهو مذهب مالك والشافعي وأحمد في الرواية الأخرى واختارها أكثر أصحابه . والمقصود أن المساجد أبلغ الموقوفات تحريرا وشبها بالعتق وليس لأحد أن يعتاض عن منفعتها كما يجوز ذلك في غيرها كما أنه لا يملك أحد أعتق عبدا منافعه . ومع هذا فأحمد اتبع الصحابة في جواز وجعل المسجد الأول سوقا . وجوز إبدال المسجد بمسجد آخر مع أنها أيضا لله تعالى يجب ذبحها لله : فلأن يجوز الإبدال في غيرها وهو أقرب إلى التمليك أولى ; فإن حقوق الآدميين تقبل من المعاوضة والبدل ما لا يقبلها حقوق الله تعالى ولا تمنع المعاوضة في حق الآدمي إلا أن يكون في ذلك ظلم لغيره أو يكون في ذلك حق لله أو يكون من حقوق الله ; فإنه لا يجوز إبدال الصلوات والحج بعمل آخر ; ولا القبلة [ ص: 233 ] بقبلة أخرى ولا شهر رمضان بشهر آخر ولا وقت الحج ومكانه بوقت آخر ومكان آخر ; بل أهل الجاهلية لما ابتدعوا النسيء الذي يتضمن إبدال وقت الحج بوقت آخر قال الله تعالى : { إبدال الهدي والأضحية بخير منها إنما النسيء زيادة في الكفر يضل به الذين كفروا يحلونه عاما ويحرمونه عاما ليواطئوا عدة ما حرم الله فيحلوا ما حرم الله } والمساجد الثلاثة التي بنتها الأنبياء - عليهم السلام - وشرع للناس السفر إليها ووجب السفر إليها بالنذر : لا يجوز إبدال عرصتها بغيرها ; بل يجوز الزيادة فيها وإبدال التأليف والبناء بغيره كما دلت عليه السنة وإجماع الصحابة ; بخلاف غيرها فإنه لا يتعين للنذر ; ولا يسافر إليه : فيجوز إبداله للمصلحة كما تقدم . والله أعلم .
ومما يبين ذلك أن ؟ على ثلاثة أقوال معروفة في مذهب الوقف على معين قد تنازع العلماء فيه هل هو ملك للموقوف عليه ؟ أو هو باق على ملك الواقف ؟ أو هو ملك لله تعالى الشافعي وأحمد وغيرهما وأكثر أصحاب أحمد يختارون أنه ملك للموقوف عليه كالقاضي . وأما المسجد ونحوه فليس ملكا لمعين باتفاق المسلمين ; وإنما يقال : هو ملك لله . وقد يقال : هو ملك لجماعة المسلمين . لأنهم المستحقون للانتفاع به فإذا جاز إبدال هذا بخير منه للمصلحة فالأول أولى ; إما بأن يعوض عنها بالبدل ; وإما أن تباع ويشترى بثمنها البدل . والإبدال كما تقدم يبدل بجنسه بما هو أنفع للموقوف عليه . وابن عقيل