فصل ونصوص أحمد في غير موضع واختيار جمهور أصحابه جواز بخير منها . قال إبدال " الهدي والأضحية " أحمد في رواية أبي طالب في الرجل يشتري الأضحية يسمنها للأضحى ؟ يبدلها بما هو خير منها ; لا يبدلها بها هو دونها . فقيل له : فإن أبدلها بما هو خير منها يبيعها ؟ قال نعم . قال القاضي : وقد أطلق القول في رواية صالح وابن منصور وعبد الله بجواز أن تبدل الأضحية بما هو خير منها . قال : ورأيت في مسائل الفضل بن زياد : إذا سماها لا يبيعها إلا لمن يريد أن يضحي بها . وهاتان الروايتان عنه كالروايتين عنه في المسجد : هل يباع أو تنقل آلته لخير منه ؟ كذلك هنا : منع في إحدى الروايتين أن يأخذ عنها بدلا [ ص: 241 ] إلا إذا كانت يضحى بها ; لتعلق حرمة التضحية بعينها . وقال الخرقي : ويجوز أن تبدل الأضحية إذا أوجبها بخير منها .
وقال في : " التعليق " إذا أوجب بدنة جاز بيعها ; وعليه بدنة مكانها ; فإن لم يوجب مكانها حتى زادت في بدن أو شعر أو ولدت كان عليه مثلها زائدة ومثل ولدها ولو أوجب مكانها قبل الزيادة والولد لم يكن عليه شيء من الزيادة . ولم أعلم في أصحاب القاضي أبو يعلى أحمد من خالف في هذا ; إلا ; فإنه اختار أنه لا يجوز إبدالها . وقال : إذا أبا الخطاب زال ملكه عنها ; ولم يجز أن يتصرف فيها ببيع ولا إبدال ; وكذلك إذا نذر أضحية وعينها . وقال هذا قياس المذهب عندي ; لأن التعيين يجري مجرى النص في النذر الذي لا يلحقه الفسخ ; لأن نذر عتق عبد معين أو دراهم معينة أحمد قد نص في رواية صالح وإبراهيم بن الحارث فيمن : تجزيه ولو كانت في ملكه لم تجزه ووجبت عليه صحيحة ; كما لو نذر أضحية مطلقة . نذر أضحية بعينها فأعورت أو أصابها عيب
قال : وكذلك نص في رواية حنبل في الحرم : فقد أجزأ عنه ; ولو كان في ملكه لم يجزه ; ووجب بدله . وغير ذلك من المسائل . فدل على ما قلت . الهدي إذا عطب في بنى ذلك على أن ملكه زال عنها ; فلا يجوز الإبدال بعد زوال الملك وهو قول أصحاب وأبو الخطاب مالك . والشافعي وأبو حنيفة يجوزون إبدالها بخير منها . وبنى أصحابه ذلك هم وموافقوه على أن ملكه لم يزل عنها . والنزاع بين الطائفتين في هذا الأصل . والقاضي أبو يعلى وأحمد وفقهاء أصحابه [ ص: 242 ] لا يحتاجون أن يبنوا على هذا الأصل . وقال : هذا هو القياس في النذر ; أنه إذا نذر الصلاة في مسجد بعينه لزمه ; وإنما تركناه للشرع وهو قوله صلى الله عليه وسلم " { أبو الخطاب } " فقيل له : فلو لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد المسجد الأقصى جاز له الصلاة في نذر الصلاة في المسجد الحرام ؟ فقال : إن لم يصح الخبر بذلك لم نسلم على هذه الرواية .
وهذا الذي قاله كما أنه خلاف نصوص أبو الخطاب أحمد وجمهور أصحابه فهو خلاف سائر أصوله ; فإن جواز الإبدال عند أحمد لا يفتقر إلى كون ذلك في ملكه ; بل ولا تأثير لذلك في جواز الإبدال ; فإنه لو لم يجز إبداله بلا ريب وإن لم يخرج عن ملكه ; بل ويقول : خرجت الأضحية عن ملكه ; ويجوز إبدالها بخير منها ; كما نقول مثل ذلك في المساجد وكما نقول بجواز الإبدال في المنذورات ; لأن الذبح عبادة لله وذبح الأفضل أحب إلى الله تعالى فكان هذا كإبدال المنذور بخير منه وذلك خير نذر عتق عبد فعينه لأهل الحرم ; بخلاف العتق ; فإن مستحقه هو العبد فبطل حقه بالإبدال . والنزاع في كون الأضحية المعينة بالنذر ثابتة على ملكه أو خارجة عن ملكه إلى الله يشبه النزاع في الوقف على الجهة العامة . والمشهور في مذهب أحمد والجمهور في ذلك أنها ملك لله .
وقد يقال : لجماعة المسلمين والمتصرف فيه بالتحويل هم المسلمون المستحقون للانتفاع به فيتصرفون فيه بحكم الولاية ; لا بحكم الملك [ ص: 243 ] وكذلك إذا قيل إنه يخرج عن ملك صاحبه ; فإن له ولاية التصرف فيه بالذبح والتفريق فكذلك له ولاية التصرف فيه بالإبدال كما لو أتلفه متلف فإنه كان يأخذ ثمنه يشتري به بدله وإن لم يكن مالكا له . فكونه خارجا عن ملكه لا يناقض جواز تصرفه فيه بولاية شرعية . وقول القائل : يملكه صاحبه أو لا يملكه . في ذلك وفي نظائره ؟ كقوله : العبد يملك أو لا يملك وأهل الحرب هل يملكون أموال المسلمين أو لا يملكونها والموقوف عليه هل يملك الوقف أو لا يملكه ؟ إنما نشأ فيها النزاع بسبب ظن كون الملك جنسا واحدا تتماثل أنواعه وليس الأمر كذلك ; بل الملك هو القدرة الشرعية والشارع قد يأذن للإنسان في تصرف دون تصرف ويملكه ذلك التصرف دون هذا فيكون مالكا ملكا خاصا ; ليس هو مثل ملك الوارث ; ولا ملك الوارث كملك المشتري من كل وجه ; بل قد يفترقان . الهدي والأضحية المعين بالنذر
وكذلك ملك النهب والغنائم ونحوهما قد خالف ملك المبتاع والوارث . فقول القائل : إنه يملك الأضحية المعينة . إن أراد أنه يملكها كما يملك المبتاع ; بحيث يبيعها ويأخذ ثمنها لنفسه ويهبها لمن يشاء وتورث عنه ملكا فليس الأمر كذلك . وكذلك إن أراد بخروجها عن ملكه أنه انقطع تصرفه فيها كما ينقطع التصرف بالرق أو البيع فليس الأمر كذلك ; بل له فيها ملك خاص وهو ملكه أن يحفظها ويذبحها ويقسم لحمها ويهدي ويتصدق ويأكل . وهذا الذي يملكه من أضحيته لا يملكه من أضحيته غيره . [ ص: 244 ] فصل والدليل على ذلك وجوه أحدها : ما ثبت في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " { الكعبة ولألصقتها بالأرض ولجعلت لها بابين : بابا يدخل الناس منه وبابا يخرجون منه } " ومعلوم أن لولا أن قومك حديثو عهد بجاهلية لنقضت الكعبة أفضل وقف على وجه الأرض ولو كان تغييرها وإبدالها بما وصفه صلى الله عليه وسلم واجبا لم يتركه فعلم أنه كان جائزا وأنه كان أصلح لولا ما ذكره من حدثان عهد قريش بالإسلام . وهذا فيه تبديل بنائها ببناء آخر . فعلم أن هذا جائز في الجملة ؟ وتبديل التأليف بتأليف آخر هو أحد أنواع الإبدال .
وأيضا فقد ثبت أن عمر وعثمان غيرا بناء مسجد النبي صلى الله عليه وسلم أما عمر فبناه بنظير بنائه الأول باللبن والجذوع وأما عثمان فبناه بمادة أعلى من تلك كالساج . وبكل حال فاللبن والجذوع التي كانت وقفا أبدلها الخلفاء الراشدون بغيرها . وهذا من أعظم ما يشتهر من القضايا ولم ينكره منكر . ولا فرق بين إبدال البناء ببناء وإبدال العرصة بعرصة : إذا اقتضت المصلحة ذلك ; ولهذا أبدل مسجد عمر بن الخطاب الكوفة بمسجد آخر : أبدل نفس العرصة [ ص: 245 ] وصارت العرصة الأولى سوقا للتمارين . فصارت العرصة سوقا بعد أن كانت مسجدا . وهذا أبلغ ما يكون في للمصلحة . وأيضا فقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه جوز إبدال الوقف بخير منه . ففي المسند مسند إبدال المنذور أحمد وسنن أبي داود قال أبو داود : ثنا موسى بن إسماعيل ثنا حماد يعني ابن سلمة أنا حبيب المعلم عن عطاء بن أبي رباح عن جابر بن عبد الله { مكة أن أصلي في بيت المقدس قال : مرة ركعتين قال : صل هاهنا ثم أعاد عليه فقال : صل هاهنا ثم أعاد عليه ; قال : فشأنك إذا أبو سلمة } قال أن رجلا قام يوم الفتح فقال يا رسول الله : إني نذرت إن فتح الله عز وجل عليك أبو داود : وروي نحوه عن عن النبي صلى الله عليه وسلم . ولهذا في السنن طريق ثالث رواه عبد الرحمن بن عوف أحمد وأبو داود . عن طائفة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال أبو داود : ثنا بن خالد ثنا وثنا أبو عاصم عباس العمبري ثنا روح عن أنا ابن جريج يوسف بن الحكم بن أبي سفيان : أنه سمع حفص بن عمر بن عبد الرحمن بن عوف عن رجال من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الخبر زاد فقال النبي صلى الله عليه وسلم " { محمدا بالحق لو صليت هاهنا لأجزأ عنك صلاة في بيت المقدس } " قال والذي بعث أبو داود رواه الأنصار عن . قال ابن جريج حفص بن عمر بن حنة : وقال عمر : أخبراه عن عن رجال من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم . [ ص: 246 ] وفي المسند وصحيح عبد الرحمن بن عوف مسلم عن ابن عباس رضي الله عنهما { بيت المقدس فبرأت ثم تجهزت تريد الخروج فجاءت ميمونة تسلم عليها وأخبرتها بذلك فقالت اجلسي وكلي ما صنعت وصلي في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : صلاة فيه أفضل من ألف صلاة فيما سواه من المساجد إلا مسجد الكعبة } " أن امرأة شكت شكوى فقالت : إن شفاني الله فلأخرجن فلأصلين في
. وهذا مذهب عامة العلماء كالشافعي وغيرهما وأحمد بن حنبل وأبي يوسف صاحب أبي حنيفة وابن المنذر وغيرهم : قالوا : إذا نذر أن يصلي في بيت المقدس أجزأه الصلاة في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم وإن نذر الصلاة في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم أجزأه الصلاة في المسجد الحرام وإن نذر الصلاة في المسجد الحرام لم تجزه الصلاة في غيره عند الأكثرين وهو مذهب ابن المسيب ومالك والشافعي في أصح قوليه ومذهب أبي يوسف صاحب أبي حنيفة . وحكي عن أبي حنيفة : لا يتعين شيء للصلاة ; بخلاف ما لو المسجد الحرام لحج أو عمرة ; فإن هذا يلزمه بلا نزاع . نذر أن يأتي وأبو حنيفة بنى هذا على أصله ; وهو أنه لا يجب بالنذر إلا ما كان من جنسه واجب بالشرع . وأما مالك وأحمد والشافعي في ظاهر مذهبه فيوجبون بالنذر ما كان طاعة ; وإن لم يكن جنسه واجبا بالشرع كما ثبت في صحيح البخاري عن عائشة [ ص: 247 ] رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " { } " من نذر أن يطيع الله فليطعه ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه
. والنبي صلى الله عليه وسلم قال : " صل هاهنا " وقال : { بيت المقدس } " فخص الأمر بالصلاة في لو صليت هنا لأجزأ عنك صلاة - أو كل صلاة - في المسجد الحرام ولم يقل : صل حيث شئت وقال : " { بيت المقدس } " فجعل المجزى عنه الصلاة في المسجد الأفضل ; لا في كل مكان . فدل هذا على أنه لم ينقله إلى البدل إلا لفضله ; لا لكون الصلاة لم تتعين . وقد ثبت عنه في الصحاح تفضيل مسجده لو صليت هاهنا لأجزأ عنك صلاة في والمسجد الحرام على المسجد الأقصى وفي السنن والمسند تفضيل المسجد الحرام على مسجده وثبت عنه في الصحيحين من حديث أبي هريرة وأبي سعيد أنه قال : " { المسجد الحرام والمسجد الأقصى ومسجدي هذا } " وفي لفظ لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد : لمسلم : " { } " . فدل ذلك على أن السفر إلى هذه الثلاثة بر وقربة وعمل صالح ; ولهذا أذن له النبي صلى الله عليه وسلم أن يذهب إلى إنما يسافر إلى ثلاثة مساجد الأقصى مع أمره له أن يصلي في المسجد الحرام وإخباره أن ذلك يجزيه فدل ذلك على أنه أمر ندب وأنه مخير بين أن يفعل عين المنذور وأن يفعل ما هو أفضل منه . ومعلوم أن النذر يوجب عليه ما نذره لله تعالى من الطاعة ; لقوله : { } وهو أمر أوجبه هو على نفسه لم يجب بالشرع ابتداء [ ص: 248 ] ثم إن الشارع بين أن البدل الأفضل يقوم مقام هذا والأضحية والهدي المعين وجوبه من جنس وجوب النذر المعين . فدل ذلك على أن إبداله بخير منه أفضل من ذبحه بعينه : كالواجب بالشرع في الذمة ; كما لو وجب عليه بنت مخاض فأدى بنت لبون ; أو وجب عليه بنت لبون فأدى حقة وفي ذلك حديث في السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم يبين أنه إذا أدى أفضل مما وجب عليه أجزأه رواه من نذر أن يطيع الله فليطعه أبو داود في السنن وغيره .
قال أبو داود : ثنا ثنا محمد بن منصور يعقوب بن إبراهيم ثنا أبي عن حدثني ابن إسحاق عبد الله بن أبي بكر عن يحيى بن عبد الله بن عبد الرحمن بن سعد بن زرارة عن عمارة بن عمرو بن حزم عن { قال : بعثني النبي صلى الله عليه وسلم مصدقا فمررت برجل فلما جمع لي ماله لم أجد عليه فيه إلا بنت مخاض فقلت له أد بنت مخاض ; فإنها صدقتك . فقال : ذاك ما لا لبن فيه ولا ظهر ; ولكن هذه ناقة فتية عظيمة سمينة فخذها . فقلت له : ما أنا بآخذ ما لم أومر به وهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم منك قريب فإن أحببت أن تأتيه فتعرض عليه ما عرضت علي فافعل فإن قبله منك قبلته وإن رده عليك رددته . أبي بن كعب
قال . فإني فاعل فخرج معي وخرج بالناقة التي عرض علي حتى قدمنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا نبي الله أتاني رسولك ليأخذ من صدقة مالي وايم الله ما قام في مالي رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا رسوله قط قبله فجمعت له مالي فزعم أن ما علي إلا بنت مخاض وذلك [ ص: 249 ] ما لا لبن فيه ولا ظهر وقد عرضت عليه ناقة فتية عظيمة ليأخذها فأبى علي وها هي هذه قد جئتك بها يا رسول الله . خذها فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك الذي عليك فإن تطوعت بخير آجرك الله فيه وقبلناه منك قال : فها هي ذه يا رسول الله قد جئتك بها فخذها قال : فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقبضها ودعا له في ماله بالبركة } وما في هذا الحديث من مذهب عامة أهل العلم الفقهاء المشهورين وغيرهم . إجزاء سن أعلى من الواجب
فقد ثبت أن إبدال الواجب بخير منه جائز بل يستحب فيما وجب بإيجاب الشرع وبإيجاب العبد . ولا فرق بين الواجب في الذمة وما أوجبه معينا فإنما وجب في الذمة وإن كان مطلقا من وجه فإنه مخصوص متميز عن غيره ولهذا لم يكن له إبداله بدونه بلا ريب . وعلى هذا فلو كان أفضل فلو نذر أن يبني لله مسجدا وصفه أو يقف وقفا وصفه . فبنى مسجدا خيرا منه ووقف وقفا خيرا منه كان أفضل . ولو عينه فقال : لله علي أن أبني هذه الدار مسجدا أو وقفها على الفقراء والمساكين . فبنى خيرا منها ووقف خيرا منها . كان أفضل : كالذي نذر الصلاة نذر أن يقف شيئا فوقف خيرا منه بالمسجد الأقصى وصلى في المسجد الحرام أو كانت عليه بنت مخاض فأدى خيرا منها .