وكان " أبو الحسن الأشعري " لما رجع عن الاعتزال سلك طريقة أبي محمد بن كلاب فصار طائفة ينتسبون إلى السنة والحديث من السالمية وغيرهم كأبي علي الأهوازي يذكرون في مثالب أبي الحسن أشياء هي من افتراء المعتزلة وغيرهم عليه لأن الأشعري بين من تناقض أقوال المعتزلة وفسادها ما لم يبينه غيره حتى جعلهم في قمع السمسمة . " وابن كلاب " لما رد على الجهمية لم يهتد لفساد أصل الكلام المحدث الذي ابتدعوه في دين الإسلام بل وافقهم عليه . وهؤلاء الذين يذمون ابن كلاب والأشعري بالباطل هم من أهل الحديث . والسالمية من الحنبلية والشافعية والمالكية وغيرهم كثير منهم موافق لابن كلاب والأشعري على هذا موافق للجهمية على أصل قولهم الذي ابتدعوه . وهم إذا تكلموا في " مسألة القرآن " وأنه غير مخلوق أخذوا كلام ابن كلاب والأشعري فناظروا به المعتزلة والجهمية وأخذوا كلام الجهمية والمعتزلة فناظروا به هؤلاء وركبوا قولا محدثا من قول هؤلاء وهؤلاء لم يذهب إليه أحد من السلف ووافقوا ابن كلاب والأشعري وغيرهما على قولهم : إن القرآن قديم واحتجوا بما ذكره هؤلاء على فساد قول المعتزلة والجهمية وغيرهم . وهم مع هؤلاء . وجمهور المسلمين يقولون : إن وقد تكلم الله به بحرف وصوت فقالوا : إن الحروف والأصوات قديمة الأعيان أو الحروف بلا أصوات وإن الباء والسين والميم مع تعاقبها في ذاتها فهي أزلية الأعيان لم تزل ولا تزال ; كما بسطت الكلام على أقوال الناس في القرآن في موضع آخر . القرآن العربي كلام الله
والمقصود هنا التنبيه على أصل مقالات الطوائف وابن كلاب أحدث ما أحدثه لما اضطره إلى ذلك من دخول أصل كلام الجهمية في قلبه وقد بين فساد قولهم بنفي علو الله ونفي صفاته . وصنف كتبا كثيرة في أصل التوحيد والصفات وبين أدلة كثيرة عقلية على فساد قول الجهمية وبين فيها أن علو الله على خلقه ومباينته لهم من المعلوم بالفطرة والأدلة العقلية القياسية كما دل على ذلك الكتاب والسنة . وكذلك ذكرها الحارث المحاسبي في كتاب " فهم القرآن " وغيره ; بين فيه من علو الله واستوائه على عرشه ما بين به فساد قول النفاة ; وفرح الكثير من النظار الذين فهموا أصل قول المتكلمين وعلموا ثبوت الصفات لله وأنكروا القول بأن كلامه مخلوق ; فرحوا بهذه الطريقة التي سلكها ابن كلاب : كأبي العباس القلانسي وأبي الحسن الأشعري والثقفي ; ومن تبعهم : كأبي عبد الله بن مجاهد وأصحابه والقاضي أبي بكر وأبي إسحاق الإسفراييني وأبي بكر بن فورك وغير هؤلاء .
وصار هؤلاء يردون على المعتزلة ما رده عليهم ابن كلاب والقلانسي والأشعري وغيرهم من مثبتة الصفات فيبينون فساد قولهم : بأن القرآن مخلوق وغير ذلك وكان في هذا من كسر سورة المعتزلة والجهمية ما فيه ظهور شعار السنة وهو وغير ذلك من أصول السنة . لكن " الأصل العقلي " الذي بنى عليه ابن كلاب قوله في كلام الله وصفاته هو أصل الجهمية والمعتزلة بعينه وصاروا إذا تكلموا في خلق الله السموات والأرض وغير ذلك من المخلوقات إنما يتكلمون بالأصل الذي ابتدعه الجهمية ومن اتبعهم ; فيقولون قول أهل الملة كما نقله أولئك ويقررونه بحجة أولئك . وكانت " محنة الإمام أحمد " سنة عشرين ومائتين وفيها شرعت القرامطة الباطنية يظهرون قولهم فإن كتب الفلاسفة قد عربت وعرف الناس أقوالهم . القول بأن القرآن كلام الله غير مخلوق وأن الله يرى في الآخرة وإثبات الصفات والقدر
فلما رأت الفلاسفة أن القول المنسوب إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وأهل بيته هو هذا القول الذي يقوله المتكلمون الجهمية ومن اتبعهم ورأوا أن هذا القول الذي يقولونه فاسد من جهة العقل ; طمعوا في تغيير الملة . فمنهم من أظهر إنكار الصانع وأظهر الكفر الصريح وقاتلوا المسلمين وأخذوا الحجر الأسود كما فعلته قرامطة البحرين . وكان قبلهم قد فعل بابك الخرمي مع المسلمين ما هو مشهور . وقد ذكر القاضي أبو بكر بن الباقلاني وغيره من كشف أسرار " الباطنية " وهتك أستارهم فإنه كان منهم من النفاة الباطنية الخرمية . وصاروا يحتجون في كلامهم وكتبهم بحجج قد ذكرها أرسطو وأتباعه من الفلاسفة وهو أن الحركة يمتنع أن يكون لها ابتداء ويمتنع أن يكون للزمان ابتداء ويمتنع أن يصير الفاعل فاعلا بعد أن لم يكن فاعلا ; فصار هؤلاء الفلاسفة وهؤلاء المتكلمون كلاهما يستدل على قوله بالحركة .
فأرسطو وأتباعه يقولون : إن الحركة يمتنع أن يحدث نوعها بعد أن لم يكن ويمتنع أن يصير الفاعل فاعلا بعد أن لم يكن ; ولأنه من المعلوم بصريح المعقول أن الذات إذا كانت لا تفعل شيئا ثم فعلت بعد أن لم تفعل ; فلا بد من حدوث حادث من الحوادث وإلا فإذا قدرت على حالها وكانت لا تفعل فهي الآن لا تفعل فإذا كانت الآن تفعل ; لزم دوام فعلها . ويقولون : قبل وبعد مستلزم للزمان فمن قال بحدوث الزمان لزمه القول بقدمه من حيث هو قائل بحدوثه . ويقولون : الزمان مقدار الحركة فيلزم من قدمه قدمها ويلزم من قدم الحركة قدم المتحرك - وهو الجسم - فيلزم ثبوت جسم قديم ثم يجعلون ذلك الجسم القديم هو الفلك ; ولكن ليس لهم على هذا حجة كما قد بسط في موضع آخر . وصار المتكلمون من الجهمية والمعتزلة والكلابية والكرامية يردون عليهم ويدعون أن القادر المختار يرجح أحد المقدورين المتماثلين على الآخر المماثل له بلا سبب أصلا وعلى هذا الأصل بنوا كون الله خالقا للمخلوقات .
ثم نفاة الصفات يقولون : رجح بمجرد القدرة وكذلك أصل القدرية . والمعتزلة جمعت بين الأمرين . وأما المثبتة كالكلابية والكرامية فيدعون أنه رجح بمشيئة قديمة أزلية . وكلا القولين مما ينكره جمهور العقلاء . ولهذا صار كثير من المصنفين في هذا الباب كالرازي ومن قبله من أئمة الكلام والفلسفة - كالشهرستاني ومن قبله من طوائف الكلام والفلسفة - لا يوجد عندهم إلا العلة الفلسفية أو القادرية المعتزلية أو الإرادية الكلابية . وكل من الثلاثة منكر في العقل والشرع ; ولهذا كانت بحوث الرازي في مسألة القادر المختار في غاية الضعف من جهة المسلمين وهي على قول الدهرية أظهر دلالة . واحتج أهل الكلام المبتدع بأنه يمتنع وجود حوادث لا أول لها ويقولون : لو وجدت حوادث لا أول لها ; لكنا إذا قدرنا ما وجد قبل الطوفان وما وجد قبل الهجرة وقابلنا بينهما ; فإما أن يتساويا - وهو ممتنع - لأنه يكون الزائد مثل الناقص وإما أن يتفاضلا فيكون فيما لا يتناهى تفاضلا وهو ممتنع . ويذكرون حججا أخرى قد بسط الكلام عليها في غير هذا الموضع .
وقد تكلم الناس في هذه " الحجة " ونحوها وبينوا فسادها ; بأن التفاضل إنما يقع من الطرف المتناهي لا من الطرف الذي لا يتناهى وبأن هذا منقوض بالحوادث المستقبلة ; فإن كون الحادث ماضيا أو مستقبلا أمر إضافي ; ولهذا منع أئمة هذا القول - كجهم والعلاف - وجود حوادث لا تتناهى في المستقبل وقال جهم بفناء الجنة والنار وقال العلاف بفناء الحركات وهذا كله مبسوط في موضع آخر .
وصار " طائفة أخرى " قد عرفت كلام هؤلاء وكلام هؤلاء - كالرازي والآمدي وغيرهما - يصنفون الكتب الكلامية فينصرون فيها ما ذكره المتكلمون المبتدعون عن أهل الملة من " حدوث العالم " بطريقة المتكلمين المبتدعة هذه وهو امتناع حوادث لا أول لها ثم يصنفون الكتب الفلسفية كتصنيف الرازي " المباحث الشرقية " ونحوها ; ويذكر فيها ما احتج به المتكلمون على امتناع حوادث لا أول لها وأن الزمان والحركة والجسم لها بداية ثم ينقض ذلك كله ويجيب عنه ويقرر حجة من قال : إن ذلك لا بداية له .
وليس هذا تعمدا منه لنصر الباطل ; بل يقول بحسب ما توافقه الأدلة العقلية في نظره وبحثه . فإذا وجد في المعقول بحسب نظره ما يقدح به في كلام الفلاسفة قدح به فإن من شأنه البحث المطلق بحسب ما يظهر له فهو يقدح في كلام هؤلاء بما يظهر له أنه قادح فيه من كلام هؤلاء وكذلك يصنع بالآخرين ومن الناس من يسيء به الظن وهو أنه يتعمد الكلام الباطل ; وليس كذلك بل تكلم بحسب مبلغه من العلم والنظر والبحث في كل مقام بما يظهر له وهو متناقض في عامة ما يقوله ; يقرر هنا شيئا ثم ينقضه في موضع آخر ; لأن المواد العقلية التي كان ينظر فيها من كلام أهل الكلام المبتدع المذموم عند السلف ومن كلام الفلاسفة الخارجين عن الملة يشتمل على كلام باطل - كلام هؤلاء وكلام هؤلاء : - فيقرر كلام طائفة بما يقرر به ثم ينقضه في موضع آخر بما ينقض به .
ولهذا اعترف في آخر عمره فقال : لقد تأملت الطرق الكلامية والمناهج الفلسفية فما رأيتها تشفي عليلا ولا تروي غليلا ورأيت أقرب الطرق " طريقة القرآن " اقرأ في الإثبات : { الرحمن على العرش استوى } { إليه يصعد الكلم الطيب } واقرأ في النفي { ليس كمثله شيء } { ولا يحيطون به علما } ومن جرب مثل تجربتي عرف مثل معرفتي .
والآمدي تغلب عليه الحيرة والوقف في عامة الأصول الكبار حتى إنه أورد على نفسه سؤالا في تسلسل العلل وزعم أنه لا يعرف عنه جوابا وبنى إثبات الصانع على ذلك ; فلا يقرر في كتبه لا إثبات الصانع ولا حدوث العالم ولا وحدانية الله ولا النبوات ولا شيئا من الأصول التي يحتاج إلى معرفتها .
والرازي - وإن كان يقرر بعض ذلك - فالغالب على ما يقرره أنه ينقضه في موضع آخر لكن هو أحرص على تقرير الأصول التي يحتاج إلى معرفتها من الآمدي .
ولو جمع ما تبرهن في العقل الصريح من كلام هؤلاء وهؤلاء لوجد جميعه موافقا لما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم ووجد صريح المعقول مطابقا لصحيح المنقول . لكن لم يعرف هؤلاء حقيقة ما جاء به الرسول وحصل اضطراب في المعقول به ; فحصل نقص في معرفة السمع والعقل وإن كان هذا النقص هو منتهى قدرة صاحبه لا يقدر على إزالته فالعجز يكون عذرا للإنسان في أن الله لا يعذبه إذا اجتهد الاجتهاد التام . هذا على قول السلف والأئمة في أن من اتقى الله ما استطاع إذا عجز عن معرفة بعض الحق لم يعذب به .
وأما من قال من الجهمية ونحوهم : إنه قد يعذب العاجزين ومن قال من المعتزلة ونحوهم من القدرية : إن كل مجتهد فإنه لا بد أن يعرف الحق وإن من لم يعرفه فلتفريطه لا لعجزه فهما قولان ضعيفان وبسببهما صارت الطوائف المختلفة من أهل القبلة يكفر بعضهم بعضا ويلعن بعضهم بعضا . فيقال " لأرسطو وأتباعه " ممن رأى دوام الفاعلية ولوازمها : العقل الصريح لا يدل على قدم شيء بعينه من العالم : لا فلك ولا غيره ; وإنما يدل على أن الرب لم يزل فاعلا . وحينئذ فإذا قدر أنه لم يزل يخلق شيئا بعد شيء كان كل ما سواه مخلوقا محدثا مسبوقا بالعدم ولم يكن من العالم شيء قديم وهذا التقدير ليس معكم ما يبطله فلماذا تنفونه ونفس قدر الفعل هو المسمى بالزمان فإن الزمان إذا قيل : إنه مقدار الحركة كان جنس الزمان مقدار جنس الحركة لا يتعين في ذلك أن يكون مقدار حركة الشمس أو الفلك .