[ ص: 217 ] وقال شيخ الإسلام أبو العباس تقي الدين بن تيمية قدس الله روحه ونور ضريحه : - فصل : في ( وإرادته ومحبته ورضاه ورحمته وغضبه وسخطه ; ومثل خلقه وإحسانه وعدله ; ومثل استوائه ومجيئه وإتيانه ونزوله ونحو ذلك من الصفات التي نطق بها الكتاب العزيز والسنة . " الصفات الاختيارية وهي الأمور التي يتصف بها الرب عز وجل فتقوم بذاته بمشيئته وقدرته ; مثل كلامه وسمعه وبصره فالجهمية " ومن وافقهم من " المعتزلة " وغيرهم يقولون : لا يقوم بذاته شيء من هذه الصفات ولا غيرها . و " الكلابية " ومن وافقهم من " السالمية " وغيرهم يقولون : " تقوم صفات بغير مشيئته وقدرته ; فأما ما يكون بمشيئته وقدرته : فلا يكون إلا مخلوقا منفصلا عنه " .
[ ص: 218 ] وأما " السلف وأئمة السنة والحديث " فيقولون : إنه متصف بذلك ; كما نطق به الكتاب والسنة ; وهو قول كثير من " أهل الكلام والفلسفة " أو أكثرهم كما ذكرنا أقوالهم بألفاظها في غير هذا الموضع . ومثل هذا : " الكلام " . فإن السلف وأئمة السنة والحديث يقولون : يتكلم بمشيئته وقدرته ; وكلامه ليس بمخلوق ; بل كلامه صفة له قائمة بذاته . وممن ذكر أن ذلك قول أئمة السنة : أبو عبد الله ابن منده وأبو عبد الله ابن حامد وأبو بكر عبد العزيز وأبو إسماعيل الأنصاري وغيرهم ; وكذلك ذكر أبو عمر بن عبد البر نظير هذا في " الاستواء " وأئمة السنة - كعبد الله بن المبارك وأحمد بن حنبل والبخاري ومن لا يحصى من الأئمة وذكره وعثمان بن سعيد الدارمي عن حرب بن إسماعيل الكرماني سعيد بن منصور وأحمد بن حنبل وإسحاق بن إبراهيم وسائر أهل السنة والحديث - متفقون على أنه متكلم بمشيئته وأنه لم يزل متكلما إذا شاء وكيف شاء .
وقد سمى الله القرآن العزيز حديثا فقال : { الله نزل أحسن الحديث } وقال : { ومن أصدق من الله حديثا } . وقال { ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث } . وقال النبي صلى الله عليه وسلم " { } " وهذا مما احتج به إن الله يحدث من أمره ما يشاء البخاري في صحيحه وفي غير صحيحه ; واحتج به غير البخاري كنعيم بن حماد . [ ص: 219 ] ومن المشهور عن وحماد بن زيد السلف : أن منه بدأ وإليه يعود . وأما " القرآن العزيز كلام الله غير مخلوق الجهمية " و " المعتزلة " فيقولون : ليس له كلام قائم بذاته ; بل كلامه منفصل عنه مخلوق عنه و " المعتزلة " يطلقون القول : بأنه يتكلم بمشيئته ; ولكن مرادهم بذلك أنه يخلق كلاما منفصلا عنه . و " الكلابية والسالمية " يقولون : إنه لا يتكلم بمشيئته وقدرته ; بل كلامه قائم بذاته بدون قدرته ومشيئته مثل حياته ; وهم يقولون : الكلام صفة ذات ; لا صفة فعل يتعلق بمشيئته وقدرته ; وأولئك يقولون : هو صفة فعل ; لكن الفعل عندهم : هو المفعول المخلوق بمشيئته وقدرته .
وأما " السلف وأئمة السنة " وكثير من أهل الكلام كالهشامية والكرامية وأصحاب أبي معاذ التومني وزهير اليامي وطوائف غير هؤلاء : يقولون : إنه " صفة ذات وفعل " هو يتكلم بمشيئته وقدرته كلاما قائما بذاته . وهذا هو المعقول من لكل متكلم فكل من وصف بالكلام كالملائكة والبشر والجن وغيرهم : فكلامهم لا بد أن يقوم بأنفسهم وهم يتكلمون بمشيئتهم وقدرتهم . والكلام صفة كمال ; لا صفة نقص ومن تكلم بمشيئته أكمل ممن لا يتكلم بمشيئته ; فكيف يتصف المخلوق بصفات الكمال دون الخالق [ ص: 220 ] ولكن " صفة الكلام الجهمية والمعتزلة " بنوا على " أصلهم " : أن الرب لا يقوم به صفة ; لأن ذلك بزعمهم يستلزم التجسيم والتشبيه الممتنع ; إذ الصفة عرض والعرض لا يقوم إلا بجسم .
و " الكلابية " يقولون : هو متصف بالصفات التي ليس له عليها قدرة ولا تكون بمشيئته ; فأما ما يكون بمشيئته فإنه حادث والرب - تعالى - لا تقوم به الحوادث . ويسمون " الصفات الاختيارية " بمسألة " حلول الحوادث " فإنه إذا كلمموسى بن عمران بمشيئته وقدرته وناداه حين أتاه بقدرته ومشيئته كان ذلك النداء والكلام حادثا . قالوا : فلو اتصف الرب به لقامت به الحوادث قالوا : ولو قامت به الحوادث لم يخل منها وما لم يخل من الحوادث فهو حادث ; قالوا : ولأن كونه قابلا لتلك الصفة إن كانت من لوازم ذاته كان قابلا لها في الأزل فيلزم جواز وجودها في الأزل والحوادث لا تكون في الأزل ; فإن ذلك يقتضي وجود حوادث لا أول لها وذلك محال : " لوجوه " قد ذكرت في غير هذا الموضع . قالوا : وبذلك استدللنا على حدوث الأجسام وبه عرفنا حدوث العالم وبذلك أثبتنا وجود المانع وصدق رسله ; فلو قدحنا في تلك لزم القدح في أصول " الإيمان " و " التوحيد " .
وإن لم يكن من لوازم ذاته صار قابلا لها بعد أن لم يكن قابلا فيكون [ ص: 221 ] قابلا لتلك الصفة فيلزم التسلسل الممتنع . وقد بسطنا القول على عامة ما ذكروه في هذا الباب وبينا فساده وتناقضه على وجه لا تبقى فيه شبهة لمن فهم هذا الباب . وفضلاؤهم - وهم المتأخرون : كالرازي والآمدي والطوسي والحلي وغيرهم - معترفون بأنه ليس لهم حجة عقلية على نفي ذلك ; بل ذكر الرازي وأتباعه أن هذا القول يلزم جميع الطوائف ونصره في آخر كتبه : " كالمطالب العالية " - وهو من أكبر كتبه الكلامية الذي سماه " نهاية العقول في دراية الأصول " - لما عرف فساد قول النفاة لم يعتمد على ذلك في " مسألة القرآن " . فإن عمدتهم في " مسألة القرآن " إذا قالوا : لم يتكلم بمشيئته وقدرته - قالوا - لأن ذلك يستلزم حلول الحوادث ; فلما عرف فساد هذا الأصل لم يعتمد على ذلك في " مسألة القرآن " . فإن عمدتهم عليه ; بل استدل بإجماع مركب وهو دليل ضعيف إلى الغاية لأنه لم يكن عنده في نصر قول الكلابية غيره ; وهذا مما يبين أنه وأمثاله تبين له فساد قول الكلابية .
وكذلك " الآمدي " ذكر في " أبكار الأفكار " ما يبطل قولهم وذكر أنه لا جواب عنه وقد كشفت هذه الأمور في مواضع ; وهذا معروف عند عامة العلماء حتى الحلي بن المطهر ذكر في كتبه أن القول بنفي " حلول الحوادث " لا دليل عليه فالمنازع جاهل بالعقل والشرع . [ ص: 222 ] وكذلك من قبل هؤلاء كأبي المعالي وذويه إنما عمدتهم أن " الكرامية " قالوا ذلك وتناقضوا فيبينون تناقض الكرامية ويظنون أنهم إذا بينوا تناقض الكرامية - وهم منازعوهم - فقد فلجوا ; ولم يعلموا أن السلف وأئمة السنة والحديث - بل من قبل الكرامية من الطوائف - لم تكن تلتفت إلى الكرامية وأمثالهم ; بل تكلموا بذلك قبل أن تخلق الكرامية : فإن ابن كرام كان متأخرا بعد في زمن أحمد بن حنبل وطبقته وأئمة السنة والمتكلمون تكلموا بهذه قبل هؤلاء وما زال مسلم بن الحجاج السلف يقولون بموجب ذلك . لكن لما ظهرت " الجهمية النفاة " في أوائل المائة الثانية بين علماء المسلمين ضلالهم وخطاؤهم ; ثم ظهر رعنة الجهمية في أوائل المائة الثالثة وامتحن " العلماء " : وغيره فجردوا الرد على الإمام أحمد الجهمية وكشف ضلالهم حتى جرد الآيات التي من القرآن تدل على بطلان قولهم وهي كثيرة جدا . الإمام أحمد
بل التي يسمونها " حلول الحوادث " كثيرة جدا وهذا كقوله تعالى : { الآيات التي تدل على " الصفات الاختيارية " ولقد خلقناكم ثم صورناكم ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا } فهذا بين في أنه إنما أمر الملائكة بالسجود بعد خلق آدم ; لم يأمرهم في الأزل ; وكذلك قوله : { إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون } فإنما قال له : بعد أن خلقه من تراب ; لا في الأزل . [ ص: 223 ] وكذلك قوله في " قصة موسى " : { فلما جاءها نودي أن بورك من في النار ومن حولها } وقال تعالى : { فلما أتاها نودي من شاطئ الوادي الأيمن في البقعة المباركة من الشجرة أن يا موسى إني أنا الله رب العالمين } فهذا بين في أنه إنما ناداه حين جاء لم يكن النداء في الأزل كما يقوله " الكلابية " يقولون : إن النداء قائم بذات الله في الأزل وهو لازم لذاته لم يزل ولا يزال مناديا له لكنه لما أتى خلق فيه إدراكا لما كان موجودا في الأزل . ثم من قال منهم إن الكلام معنى واحد : منهم من قال : سمع ذلك المعنى بأذنه كما يقول الأشعري ومنهم من يقول : بل أفهم منه ما أفهم ; كما يقوله : القاضي أبو بكر وغيره فقيل لهم : عندكم هو معنى واحد لا يتبعض ولا يتعدد فموسى فهم المعنى كله أو بعضه ؟ إن قلتم كله فقد علم علم الله كله وإن قلتم بعضه فقد تبعض وعندكم لا يتبعض . ومن قال من أتباع " الكلابية " : بأن النداء وغيره من الكلام القديم حروف أو حروف وأصوات لازمة لذات الرب كما تقوله " السالمية " ومن وافقهم يقولون : إنه يخلق له إدراكا لتلك الحروف والأصوات ; والقرآن والسنة وكلام السلف قاطبة يقتضي أنه إنما ناداه وناجاه حين أتى ; لم يكن النداء موجودا قبل ذلك فضلا عن أن يكون قديما أزليا .
وقال تعالى : { فلما ذاقا الشجرة بدت لهما سوآتهما وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة وناداهما ربهما ألم أنهكما عن تلكما الشجرة وأقل لكما إن الشيطان لكما عدو مبين } . وهذا يدل على أنه لما أكلا منها ناداهما لم ينادهما قبل ذلك . وقال تعالى : { ويوم يناديهم فيقول ماذا أجبتم المرسلين } . { ويوم يناديهم فيقول أين شركائي الذين كنتم تزعمون } . فجعل النداء في يوم معين وذلك اليوم حادث كائن بعد أن لم يكن وهو حينئذ يناديهم ; لم ينادهم قبل ذلك . وقال تعالى : { يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود أحلت لكم بهيمة الأنعام إلا ما يتلى عليكم غير محلي الصيد وأنتم حرم إن الله يحكم ما يريد } . فبين أنه يحكم فيحلل ما يريد ويحرم ما يريد ويأمر بما يريد ; فجعل التحليل والتحريم والأمر والنهي متعلقا بإرادته وينهى بإرادته ويحلل بإرادته ويحرم بإرادته ; و " الكلابية " يقولون : ليس شيء من ذلك بإرادته ; بل قديم لازم لذاته غير مراد له ولا مقدور . و " المعتزلة مع الجهمية " يقولون : كل ذلك مخلوق منفصل عنه ليس له كلام قائم به لا بإرادته ولا بغير إرادته ومثل هذا كثير في القرآن العزيز .