قوله تعالى: وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون (186) وقد أخبر الله تعالى بقربه ممن دعاه، وإجابته له، فقال: وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان وقد روي في سبب نزولها: أن أعرابيا قال: يا رسول الله، أقريب ربنا فنناجيه، أم بعيد فنناديه؟ فأنزل الله عز وجل: وإذا سألك عبادي عني فإني [ ص: 138 ] قريب خرجه ، ابن جرير . وابن أبي حاتم
وروى ، عن عبد الرزاق ، عن جعفر بن سليمان عوف ، عن قال: الحسن، سأل أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أين ربنا؟ فأنزل الله عز وجل: وإذا سألك عبادي عني فإني قريب . وروى بإسناده، عن عبد بن حميد عبد الله بن عبيد بن عمير ، قال: نزلت هذه الآية : ادعوني أستجب لكم قالوا: كيف لنا به أن نلقاه حتى ندعوه؟ فأنزل الله عز وجل على نبيه - صلى الله عليه وسلم -: وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان فقالوا: صدق ربنا، هو بكل مكان . وقد خرج في "الدعوات " حديث البخاري ، أبي موسى وفي رواية: أنهم رفعوا أصواتهم بالتكبير، فقال لهم النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إنكم لا تدعون أصم ولا غائبا، إنكم تدعون سميعا قريبا" . ولم يكن أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - يفهمون من هذه النصوص غير المعنى الصحيح المراد بها، يستفيدون بذلك معرفة عظمة الله وجلاله، واطلاعه على عباده وإحاطته بهم، وقربه من عابديه، وإجابته لدعائهم، فيزدادون به خشية لله وتعظيما وإجلالا ومهابة ومراقبة واستحياء، ويعبدونه كأنهم يرونه . ثم حدث بعدهم من قل ورعه، وساء فهمه وقصده، وضعفت عظمة الله وهيبته في صدره، وأراد أن يري الناس امتيازه عليهم بدقة الفهم وقوة النظر . [ ص: 139 ] فزعم أن هذه النصوص تدل على أن الله بذاته في كل مكان، كما يحكى ذلك عن طوائف من "إنه أقرب إليكم من أعناق رواحلكم " . الجهمية والمعتزلة ومن وافقهم، تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا، وهذا شيء ما خطر لمن كان قبلهم من الصحابة - رضي الله عنهم، وهؤلاء ممن يتبع ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله " وقد حذر النبي - صلى الله عليه وسلم - أمته منهم في حديث الصحيح المتفق عليه . وتعلقوا - أيضا - بما فهموه بفهمهم القاصر مع قصدهم الفاسد بآيات في كتاب الله، مثل قوله تعالى: عائشة وهو معكم أين ما كنتم وقوله: ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم فقال من قال من علماء السلف حينئذ: إنما أراد أنه معهم بعلمه، وقصدوا بذلك إبطال ما قاله أولئك، مما لم يكن أحد قبلهم قاله ولا فهمه من القرآن . وممن قال: إن هذه المعية بالعلم ، وروي عنه أنه رواه عن مقاتل بن حيان ، عن عكرمة . وقاله ابن عباس ، قال: الله فوق عرشه، وعلمه بكل مكان . وروي نحوه عن الضحاك مالك وعبد العزيز الماجشون والثوري وأحمد وغيرهم من أئمة السلف . وروى وإسحاق : ثنا الإمام أحمد عبد الله بن نافع ، قال: قال : الله في السماء، وعلمه بكل مكان . وروي هذا المعنى عن مالك علي - أيضا . وقال وابن مسعود في قوله تعالى: الحسن إن ربك أحاط بالناس [ ص: 140 ] قال: علمه بالناس . وحكى وغيره إجماع العلماء من الصحابة والتابعين في تأويل قوله: ابن عبد البر وهو معكم أين ما كنتم أن المراد علمه . وكل هذا قصدوا به رد قول من قال: إنه تعالى بذاته في كل مكان . وزعم بعض من تحذلق أن ما قاله هؤلاء الأئمة خطأ، لأن علم الله صفة لا تفارق ذاته، وهذا سوء ظن منه بأئمة الإسلام; فإنهم لم يريدوا ما ظنه بهم، وإنما أرادوا أن علم الله متعلق بما في الأمكنة كلها ففيها معلوماته، لا صفة ذاته، كما وقعت الإشارة في القرآن إلى ذلك بقوله تعالى: وسع كل شيء علما وقوله: ربنا وسعت كل شيء رحمة وعلما وقوله: ثم استوى على العرش يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها وما ينـزل من السماء وما يعرج فيها وهو معكم أين ما كنتم وقال سألت حرب: إسحاق عن قوله: ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم قال: حيث ما كنت هو أقرب إليك من حبل الوريد، وهو بائن من خلقه . وروى عمر بن أبي سلمة ، عن أبيه، أن مر بقاص وقد رفعوا أيديهم، فقال: ويلكم! إن ربكم أقرب مما ترفعون، وهو أقرب إلى أحدكم من حبل الوريد . وخرجه عمر بن الخطاب ، وعنده: أن المار والقائل بذلك هو أبو نعيم . وخطب ابن عمر ، فذكر في خطبته: إن الله أقرب إلى عباده من حبل الوريد . وكان عمر بن عبد العزيز حاضرا يسمع، فأعجبه حسن كلام مجاهد . [ ص: 141 ] وهذا كله يدل على أن قرب الله من خلقه شامل لهم، وقربه من أهل طاعته فيه مزيد خصوصية، كما أن معيته مع عباده عامة حتى ممن عصاه . قال تعالى: عمر يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله وهو معهم إذ يبيتون ما لا يرضى من القول ومعيته مع أهل طاعته خاصة لهم، فهو سبحانه مع الذين اتقوا والذين هم محسنون . وقال لموسى وهارون: إنني معكما أسمع وأرى وقال موسى: إن معي ربي سيهدين وقال في حق محمد وصاحبه: إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا ولهذا لأبي بكر في الغار: "ماظنك باثنين الله ثالثهما" . قال النبي - صلى الله عليه وسلم -
فهذه معية خاصة غير قوله: ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم الآية، فالمعية العامة تقتضي التحذير من علمه واطلاعه وقدرته وبطشه وانتقامه، والمعية الخاصة تقتضي حسن الظن بإجابته ورضاه وحفظه وصيانته، فكذلك القرب . وليس هذا القرب كقرب الخلق المعهود منهم، كما ظنه من ظنه من أهل الضلال، وإنما هو قرب ليس يشبه قرب المخلوقين، كما أن الموصوف به ليس كمثله شيء وهو السميع البصير وهكذا القول في أحاديث النزول إلى سماء الدنيا، فإنه من نوع قرب الرب من داعيه وسائليه ومستغفريه .
وقد سئل عنه ، فقال هو في مكانه يقرب من خلقه كما يشاء . [ ص: 142 ] ومراده أن نزوله ليس هو انتقال من مكان إلى مكان كنزول المخلوقين . حماد بن زيد
وقال : سألت حنبل أبا عبد الله : ينزل الله إلى سماء الدنيا؟ قال: نعم . قلت: نزوله بعلمه أو بماذا؟ قال: اسكت عن هذا، مالك ولهذا; أمض الحديث على ما روي بلا كيف ولا حد، إلا بما جاءت به الآثار، وجاء به الكتاب، قال الله: فلا تضربوا لله الأمثال ينزل كيف شاء . بعلمه وقدرته وعظمته، أحاط بكل شيء علما، لا يبلغ قدره واصف، ولا ينأى عنه هرب هارب، عز وجل .
ومراده: أن بل هو نزول يليق بقدرته وعظمته وعلمه المحيط بكل شيء، والمخلوقون لا يحيطون به علما، وإنما ينتهون إلى ما أخبرهم به عن نفسه، أو أخبر به عنه رسوله . فلهذا اتفق السلف الصالح على إمرار هذه النصوص كما جاءت من غير زيادة ولا نقص، وما أشكل فهمه منها، وقصر العقل عن إدراكه وكل إلى عالمه . نزوله تعالى ليس كنزول المخلوقين،