[ ص: 395 ] قوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وامسحوا برءوسكم وأرجلكم إلى الكعبين وإن كنتم جنبا فاطهروا وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم لعلكم تشكرون
[قال ] : ثنا البخاري عبد الله بن يوسف: أخبرنا عن مالك عن أبيه عن عبد الرحمن بن القاسم زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت عائشة فقالوا ألا ترى ما صنعت أبي بكر الصديق أقامت برسول الله صلى الله عليه وسلم والناس وليسوا على ماء وليس معهم ماء فجاء عائشة ورسول الله صلى الله عليه وسلم واضع رأسه على فخذي قد نام فقال حبست رسول الله صلى الله عليه وسلم والناس وليسوا على ماء وليس معهم ماء فقالت أبو بكر فعاتبني عائشة وقال ما شاء الله أن يقول وجعل يطعنني بيده في خاصرتي فلا يمنعني من التحرك إلا مكان رسول الله صلى الله عليه وسلم على فخذي فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أصبح على غير ماء فأنزل الله أبو بكر فتيمموا فقال آية التيمم ما هي بأول بركتكم يا آل أسيد بن الحضير قالت فبعثنا البعير الذي كنت [ ص: 396 ] عليه فأصبنا العقد تحته . أبي بكر خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره حتى إذا كنا بالبيداء أو بذات الجيش انقطع عقد لي فأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم على التماسه وأقام الناس معه وليسوا على ماء فأتى الناس إلى
قيل: إن الرواية هنا: ورواه في "التفسير" بلفظ: "فقام حتى أصبح " وهو لفظ "فنام حتى أصبح " ، وكذا في "الموطأ" . مسلم
هذا السياق سياق لهذا الحديث عن أبيه، عن عبد الرحمن بن القاسم . وقد رواه عائشة عن أبيه، عن هشام بن عروة فخالف في بعض ألفاظه ومعانيه مما لا يضر . وقد خرجه عائشة في موضع آخر، وفي بعض ألفاظه اختلاف على البخاري - أيضا . عروة
ومما خالف فيه: أنه ذكر استعارت قلادة من عائشة فسقطت . وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أرسل رجلين في طلبها وليس معهما ماء فنزلت آية التيمم . أسماء أن
وفي رواية: أنهما صليا بغير وضوء .
وهذا يمكن الجمع بينه وبين حديث ، عن القاسم بأن القلادة لما سقطت ظنوا أنها سقطت في المنزل الماضي، فأرسلوا في طلبها وأقاموا في منزلهم وباتوا فيه، وفقد الجميع الماء حتى تعذر عليهم الوضوء . وفي حديث عائشة هشام : أن ذلك كان ليلة الأبواء . وفي رواية عنه: أن ذلك المكان كان يقال له: الصلصل .
وروى : حدثني ابن إسحاق يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير ، عن أبيه، عن ، قالت: عائشة بتربان - بلد بينه وبين المدينة بريد وأميال، وهو بلد لا ماء به - وذلك من [ ص: 397 ] السحر، انسلت قلادة لي من عنقي فوقعت - وذكر بقية الحديث . أقبلنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في بعض أسفاره، حتى إذا كنا
خرجه . الإمام أحمد
وقد روي هذا الحديث من حديث - أيضا - عمار بن ياسر ، فانقطع عقد لها من جزع ظفار، فحبس الناس ابتغاء عقدها ذلك حتى أضاء الفجر، وليس مع الناس ماء، فتغيظ عليها عائشة وقال: حبست الناس وليس معهم ماء؟ فأنزل الله على رسوله - صلى الله عليه وسلم - رخصة أبو بكر فتيمم المسلمون مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - التطهر بالصعيد الطيب، وذكر الحديث . أن النبي - صلى الله عليه وسلم - عرس بأولات الجيش ومعه
خرجه الإمام أحمد - وهذا لفظه - وأبو داود والنسائي . وفي إسناده اختلاف . وابن ماجه
والآية التي نزلت بسبب هذه القصة كانت آية المائدة، فإن خرج هذا الحديث في "التفسير" من كتابه هذا من حديث البخاري ، عن ابن وهب عمرو عن ، وقال في حديثه: فنزلت: عبد الرحمن بن القاسم يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم هذه الآية .
وهذا السفر الذي سقط فيه قلادة أو عقدها كان لغزوة المريسيع إلى عائشة بني المصطلق من خزاعة سنة ست، وقيل: سنة خمس، وهو الذي ذكره عن جماعة من العلماء، قالوا: وفي هذه الغزوة كان حديث الإفك . ابن سعد
وقد ذكر : أن قصة التيمم كانت في غزوة الشافعي بني المصطلق، وقال: [ ص: 398 ] أخبرني بذلك عدد من قريش من أهل العلم بالمغازي وغيرهم . فإن قيل: فقد ذكر غير واحد، منهم: : أنه يحتمل أن يكون الذي نزل بسبب قصة ابن عبد البر الآية التي في سورة النساء، فإنها نزلت قبل سورة المائدة بيقين، وسورة المائدة عائشة حتى قيل: إنها نزلت كلها أو غالبها في حجة الوداع، وآية النساء نزولها متقدم . من أواخر ما نزل من القرآن،
وفي "صحيح " من حديث مسلم أنها نزلت فيه لما ضربه رجل قد سكر بلحي بعير، ففزر أنفه . سعد بن أبي وقاص
وفي "سنن أبي داود" والنسائي ، عن وابن ماجه أن رجلا صلى وقد شرب الخمر، فخلط في قراءته، فنزلت آية النساء . علي،
فقد تبين بهذا: أن الآية التي في سورة النساء نزلت قبل تحريم الخمر . والخمر حرمت بعد غزوة أحد، ويقال: إنها حرمت في محاصرة بني النضير بعد أحد بيسير، وآية النساء فيها ذكر التيمم، فلو كانت قد نزلت قبل قصة لما توقفوا حينئذ في التيمم، ولا انتظروا نزول آية أخرى فيه . قيل: هذا لا يصح; لوجوه: عائشة
أحدها: أن سبب نزول آية النساء قد صح أنه كان ما ينشأ من شرب الخمر من المفاسد في الصلاة وغيرها، وهذا غير السبب الذي اتفقت الروايات عليه في قصة ، فدل على أن قصة عائشة نزل بسببها آية غير آية النساء . وليس سوى آية المائدة . [ ص: 399 ] والثاني: أن آية النساء لم تحرم الخمر مطلقا بل عند حضور الصلاة، وهذا كان قبل عائشة أحد، وقصة كانت بعد غزوة عائشة أحد بغير خلاف، وليس في قصتها ما يناسب النهي عن قربان الصلاة مع السكر حتى تصدر به الآية .
وأما تصدير الآية بذكر الوضوء فلم يكن لأصل مشروعيته، فإن الوضوء كان شرع قبل ذلك بكثير، كما سبق تقريره في أول "كتاب الوضوء"، وإنما كان تمهيدا للانتقال عنه إلى التيمم عند العجز عنه . ولهذا قالت : فنزلت آية التيمم، ولم تقل: آية الوضوء . عائشة
والثالث: أنه قد ورد التصريح بذلك في "صحيح " كما ذكرناه . البخاري
وأما توقفهم في التيمم حتى نزلت آية المائدة مع سبق نزول التيمم في سورة النساء، فالظاهر - والله أعلم - أنهم توقفوا في جواز التيمم في مثل هذه الواقعة، لأن فقدهم للماء إنما كان بسبب إقامتهم لطلب عقد أو قلادة، وإرسالهم في طلبها من لا ماء معه مع إمكان سيرهم جميعا إلى مكان فيه ماء، فاعتقدوا أن في ذلك تقصيرا في طلب الماء، فلا يباح معه التيمم . فنزلت آية المائدة مبينة جواز التيمم في مثل هذه الحال، وأن هذه الصورة داخلة في عموم آية النساء .
ولا يستبعد هذا، فقد كان طائفة من الصحابة يعتقدون أنه لا يجوز استباحة رخص السفر من الفطر والقصر إلا في سفر طاعة دون الأسفار المباحة، ومنهم من خص ذلك بالسفر الواجب كالحج والجهاد، فلذلك توقفوا في جواز التيمم للاحتباس عن الماء لطلب شيء من الدنيا حتى بين لهم جوازه ودخوله في عموم قوله: فلم تجدوا ماء ويدل ذلك على [ ص: 400 ] جواز وهذا مما يستأنس به من يقول: إن الرخص لا تستباح في سفر المعصية . التيمم في سفر التجارة وما أشبهه من الأسفار المباحة،
وأما دعوى نزول سورة المائدة كلها في حجة الوداع فلا تصح، فإن فيها آيات نزلت قبل ذلك بكثير، وقد صح أن المقداد قال للنبي - صلى الله عليه وسلم - يوم بدر: لا نقول لك كما قال بنو إسرائيل لموسى: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ها هنا قاعدون، فدل هذا على أن هذه الآية نزلت قبل غزوة بدر . والله أعلم .
وقد ذكر الله تعالى التيمم في الآيتين بلفظ واحد، فقال فيهما: وإن كنتم جنبا فاطهروا وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه
فقوله تعالى: وإن كنتم مرضى أو على سفر ذكر شيئين مبيحين للتيمم:
أحدهما: المرض، والمراد به عند جمهور العلماء: ما كان استعمال الماء معه يخشى منه الضرر .
والثاني: السفر، واختلفوا: هل هو شرط للتيمم مع عدم الماء، أم وقع ذكره لكونه مظنة عدم الماء غالبا، فإن عدم الماء في الحضر قليل أو نادر، كما قال الجمهور في ذكر السفر في آية الرهن، أنه إنما ذكر السفر لأنه مظنة عدم الكاتب، وليس بشرط للرهن . والجمهور: على أن السفر ليس بشرط للرهن ولا للتيمم مع عدم الماء . وأنه يجوز والتيمم مع عدم الماء في الحضر . الرهن في الحضر،
وقالت الظاهرية: السفر شرط في الرهن والتيمم . [ ص: 401 ] وعن رواية باشتراط السفر للتيمم خاصة، وحكي رواية عن أحمد وعن طائفة من أصحاب أبي حنيفة . مالك
وعلى هذا: فلا فرق بين السفر الطويل والقصير على الأصح عندهم . وقوله: أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء
قد قيل: إن "أو" هنا بمعنى الواو، كما يقول الكوفيون ومن وافقهم، فإنه لما ذكر السببين المبيحين للتيمم، وهما التضرر باستعماله بالمرض ومظنة فقده بالسفر ذكر ما يستباح منه الصلاة بالتيمم وهو الحدث، فإن التيمم يبيح الصلاة من الحدث الموجود ولا يرفعه عند كثير من العلماء، وهو مذهب ، وظاهر مذهب الشافعي وأصحابه، ولهذا قالوا: يجب عليه أن ينوي ما يستبيحه من العبادات وما يستبيح فعل العبادات منه من الأحداث . أحمد
وقالت طائفة: بل التيمم يرفع الحدث رفعا مؤقتا بعدم القدرة على استعمال الماء، وربما استدل بعضهم بهذه الآية، وقالوا: إنما أمر الله بالتيمم مع وجود الحدث، ولو كان التيمم واجبا لكل صلاة أو لوقت كل صلاة - كما يقوله من يقول: إن التيمم لا يرفع الحدث، على اختلاف بينهم في ذلك - لما كان لذكر الحدث معنى .
والأظهر - والله أعلم -: أن "أو" ها هنا ليست بمعنى الواو، بل هي على بابها، وأريد بها: التقسيم والتنويع، وأن التيمم يباح في هذه الحالات الثلاث، واثنتان منهما مظنتان، وهما: المرض والسفر، فالمرض مظنة التضرر باستعمال الماء، والسفر مظنة عدم الماء، فإن وجدت الحقيقة في هاتين المظنتين جاز التيمم، وإلا فلا . [ ص: 402 ] ثم ذكر قسما ثالثا، وهو وجود الحقيقة نفسها، فذكر أن من كان محدثا ولم يجد ماء فليتيمم، وهذا يشمل المسافر وغيره، ففي هذا دليل على أن التيمم يجوز لمن لم يجد الماء، مسافرا كان أو غير مسافر، والله أعلم .
وقد ذكر سبحانه حدثين:
أحدهما: الحدث الأصغر، وهو المجيء من الغائط، وهو كناية عن قضاء الحاجة والتخلي، ويلتحق به كل ما كان في معناه، كخروج الريح أو النجاسات من البدن عند من يرى ذلك .
والثاني: ملامسة النساء، واختلفوا: هل المراد بها الجماع خاصة، فيكون حينئذ قد أمر بالتيمم من الحدث الأصغر والأكبر، وفي ذلك رد على من خالف في التيمم للجنابة كما سيأتي ذكره - إن شاء الله تعالى - أو المراد بالملامسة مقدمات الجماع من القبلة والمباشرة لشهوة، أو مطلق التقاء البشرتين، وعلى هذين القولين فلم يذكر في الآية غير التيمم من الحدث الأصغر .
وقوله تعالى: فلم تجدوا ماء متعلق بمن أحدث، سواء كان على سفر أو لم يكن، كما سبق تقريره، دون المريض، لأن المريض لا يشترط لتيممه فقد الماء، هذا هو الذي عمل به الأمة سلفا وخلفا .
وحكي عن عطاء : أن فقد الماء شرط للتيمم مع المرض - أيضا - فلا يباح للمريض أن يتيمم مع وجود الماء وإن خشي التلف . وهذا بعيد الصحة عنهما، فإنه لو لم يجز التيمم إلا لفقد الماء لكان ذكر المرض لا فائدة له . [ ص: 403 ] وقوله: والحسن فتيمموا أصل القصد، ثم صار علما على هذه الطهارة المخصوصة . التيمم في اللغة
وقوله: (صعيدا) ، اختلفوا في المراد بالصعيد، فمنهم من فسره بما تصاعد على وجه الأرض من أجزائها، ومنهم: من فسره بالتراب خاصة .
وقوله: (طيبا) ، فسره من قال: الصعيد: ما تصاعد على وجه الأرض " بالطاهر، ومن فسره بالتراب، قال: المراد بالصعيد التراب المنبت، كقوله تعالى: والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه وهذا مذهب الشافعي في المشهور عنه . وأحمد
وقال : الصعيد الطيب تراب الحرث . ابن عباس
وقوله: فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه كقوله في الوضوء: وامسحوا برءوسكم
وقد ذكرنا فيما سبق في "أبواب الوضوء" أن كثيرا من العلماء أوجبوا وخالف فيه آخرون، وأكثرهم وافقوا هاهنا . وقالوا: يجب استيعاب الوجه والكفين بالتيمم، ومنهم من قال: يجزئ أكثرهما، ومنهم من قال: يجزئ مسح بعضهما كالرأس - أيضا . وقول النبي - صلى الله عليه وسلم - استيعاب مسح الرأس بالماء، لعمار: ذلك ويبين أن المأمور به مسح جميعهما . "إنما يكفيك أن تضرب بيديك الأرض، ثم تمسح بهما وجهك وكفيك "يرد
وسيأتي الكلام على حد اليدين المأمور بمسحهما في التيمم - إن شاء تعالى .
وقوله تعالى: (منه) يستدل به من قال: لا تيمم إلا بتراب له [ ص: 404 ] غبار يعلق باليد، فإن قوله: (منه) ، يقتضي أن يكون الممسوح به الوجه واليدان بعض الصعيد، ولا يمكن ذلك إلا فيما له غبار يعلق باليد حتى يقع المسح به، ومن خالف في ذلك، جعل "من" هاهنا لأبعد الغاية، لا للتبعيض، وهو بعيد يأباه سياق الكلام، والله تعالى أعلم .