ولقد حرم الله تعالى على المشركين أن يدخلوا المسجد الحرام من بعد العام التاسع، وربما كان منهم من يدعي أنه يعمر المسجد الحرام فنهى عن ذلك أيضا، وقال تعالى: ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله شاهدين على أنفسهم بالكفر أولئك حبطت أعمالهم وفي النار هم خالدون .
ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله أي: ما ساغ وما استقام للمشركين أن يعمروا مساجد الله، وعمارة المساجد بإقامة الشعائر فيها، وتشييد بنيانها، وهنا قراءتان، قراءة "مسجد" الله تعالى وهو البيت الحرام; لأنه أول بيت بني للعبادة وهو أعظم المساجد، وإذا ذكر المطلق انصرف إلى الفرد الأعظم، وبيت الله الحرام هو الفرد الأعظم في المساجد، وهناك قراءة أخرى بالجمع "مساجد الله" وهي قراءة حفص ، وبها قرئت (مساجد) وتخرج على أن المراد المسجد الحرام، والجمع; لأن كل بقعة منه مسجد، ولأنه إمام المساجد، فهو قبلة المسلمين، وكل مسجد له تابع.
أو يراد جنس المساجد، كما تقول: فلان لا يقرأ الكتب تريد جنس الكتب لا تريد واحدا بعينه، وإنه ليس للمشركين عمارة المساجد; لأن عمارة المساجد إقامة الشعائر فيها كما ذكرنا، وعمارتها بعبادة الله وحده، وليس من عمارتها إحاطتها بالأصنام، والطواف عراة، وغير ذلك من المحدثات التي ليست من العبادة في شيء.
[ ص: 3251 ] وقوى الله سبحانه وتعالى نفي أن يعمروا المساجد بقوله تعالت كلماته: شاهدين على أنفسهم بالكفر أي حال كونهم شاهدين على أنفسهم بالكفر أي بعبادة الأصنام وهو كفر لا ريب، فإن هذه الحال مناقضة تمام المناقضة للعمارة الحقة للمساجد بأن يعبدوا الله حق عبادته، ولا يشركوا به شيئا.
وقد بين هذه المناقضة فضل بيان فقال غفر الله تعالى له: "ما استقام لهم أن يجمعوا بين أمرين متناقضين عمارة متعبدات الله تعالى مع الكفر بالله تعالى وبعبادته، ومعنى شهادتهم على أنفسهم بالكفر ظهور كفرهم، وأنهم نصبوا أصنامهم حول البيت، وكانوا يطوفون عراة، ويقولون: لا نطوف عليها بثياب قد أصبنا فيها المعاصي، وكلما طافوا بها شوطا سجدوا للأصنام". الزمخشري
وإنه لما التقى الأسرى من قريش بالمهاجرين أخذ هؤلاء يعيرونهم بأنهم قطعوا الرحم، فقال - لعمه علي - كرم الله وجهه يعاتبه لقتال ابن أخيه العباس محمد - صلى الله عليه وسلم - وقطيعة الرحم، وأغلظ في القول فقال : "تذكرون مساوئنا ولا تذكرون محاسننا، فقال علي: ألكم محاسن؟ قال نعم: إنا لنعمر المسجد، ونحجب الكعبة، ونسقي العباس الحجاج ، ونفك العاني".
وقيل: إن هذا سبب نزول هذه الآية، وفي الحق إنه كان في الجاهلية بعض أعمال ولكن يذهب بها كلها الشرك، فمن يعمل ابتغاء مرضاة الله الواحد غير مفاخر ولا معتز بعصبية يكن عمله لله، ولا يكون مشركا أحدا بالله في عبادة قط، ومن يعمل مفاخرا معتزا بعصبيته غير معتز بالله فعمله في هباء، ولذلك قال تعالى: أولئك حبطت أعمالهم الإشارة إليهم متصفين بالكفر البادي من كل أعمالهم من عبادة الأصنام، والطواف عراة، وما يكون من أعمالهم فيه بعض النفع خلطوا به نية المفاخرة والعصبية الجاهلية، والإشارة إلى الصفات تفيد سبب الحكم، وهو حبوط أعمالهم ودخولهم النار، وحبوط الأعمال بطلانها وعدم إنتاج ثمرتها، والحبوط يفيد البطلان الذي يكون ناشئا من ذات العمل، فبطلان أعمالهم ناشئ من ذاتها; لأنها لا تصحبها النية الطيبة المؤمنة بالله تعالى وفي النار هم [ ص: 3252 ] خالدون قدم الجار والمجرور (في النار) لاختصاصهم بالنار لا يدخلون غيرها، وتأكد ذلك الحكم بضمير الفصل (هم).
هذا، وإن المساجد كما أشار الله سبحانه وتعالى بيوت الله، ولا تعمر إلا بالعبادة الخالصة لله، وهي مأوى المؤمن في الدنيا، ولذا قال - صلى الله عليه وسلم - فيما رواه - رضي الله عنه -: " معاذ بن جبل إن الشيطان ذئب الإنسان كذئب الغنم يأخذ الشاة القاصية، فإياكم والشعاب، وعليكم بالجماعة والعامة والمسجد