يا أيها الذين آمنوا إن كثيرا من الأحبار والرهبان ليأكلون أموال الناس بالباطل ويصدون عن سبيل الله والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم يوم يحمى عليها في نار جهنم فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم هذا ما كنـزتم لأنفسكم فذوقوا ما كنتم تكنزون
الخطاب للذين آمنوا والنداء لهم بالبعيد، والخبر عن أحبار اليهود ورهبان النصارى، فلماذا كان الإخبار للذين آمنوا؟ ألمجرد أم له ولأمر آخر يطويه الإخبار بقول: إن القصص لا ريب فيه العبرة كما قال تعالى: القصص الحكيم الذي تكون فيه العبرة لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب ولكنه يطوي أمرين آخرين، وهما:
[ ص: 3289 ] أولا: ألا يثق المؤمنون بهم بما يلبسونه من طقوس ومسوح يلقون بها بين الناس المهابة منهم والثقة فيبين الله للمؤمنين أنهم يتجرون بعلمهم، ويأخذون الرشا وسحت المال، والاتجار بالعلم في ذاته غير جائز، فكيف إذا كان الثمن رشا وبراطيل وسحت المال؟!
وثانيا: ليكون ذلك تحذيرا لمن يتعلمون علم الإسلام بألا يتخذوه متجرا يتجرون به، فعلم الإسلام أعلى ما يدخره العلماء فلا يبيعونه ولا يحطون به على هوى الحكام، ولقد قال في ذلك الحافظ ابن كثير : "والمقصود وعباد الضلال، كما قال التحذير من علماء السوء : من فسد من علمائنا كان فيه شبه من اليهود، ومن فسد من عبادنا كان فيه شبه من النصارى ... والحاصل التحذير من التشبه بهم في أقوالهم وأحوالهم، ويقول في ذلك الفقيه سفيان الثوري : عبد الله بن المبارك
وهل أفسد الدين إلا الملوك وأحبار سوء ورهبانها
ليأكلون أموال الناس معناها يأخذونها بغير مسوغ ديني، وعبر عن الأخذ بالأكل لأن الأكل في الأصل هو أوضح الغايات، ولأنه ينبئ عن الشره والطمع في الأموال وأخذها بغير حق، وذلك أنهم كانوا يأخذون سحت الأموال، ويبيعون ما يحلونه لأنفسهم من الدين، ويأخذون البراطيل، وكلما زادت ثقة الناس فيهم ازدادوا طمعا في أموالهم، بل فيما هو أفحش من باطل الأموال، وبعد أن ضعف الدين في قلوب علمائنا كان منهم من يفعل مثل فعلهم، ويقول في ذلك ابن كثير : "وذلك أنهم يأكلون الدنيا بالدين، ومناصبهم ورياستهم في الناس يأكلون بها أموالهم، كما كان لأحبار اليهود على أهل الجاهلية شرف، ولهم عندهم خرج وهدايا وضرائب تجيء إليهم، فلما بعث الله رسوله - صلى الله عليه وسلم - استمروا على ضلالهم وكفرهم وعنادهم طمعا منهم أن تبقى لهم تلك الرياسات فأطفاها الله بنور النبوة، وسلبهم إياها!!
وإن نور النبوة المحمدية بعد أن بزغ، وعم ضياؤه كان مزيلا لما يشيعه الأحبار والقسيسون من إفساد وضلال، ولذلك لما فتك النصارى بالمسلمين في [ ص: 3290 ] الحروب الصليبية كان بعده الإصلاح المسيحي، مع أن حال المسلمين لم تكن كما أراد لها الإسلام.
كلمة (والأحبار) فسرناها من قبل بالعلماء الذين يحبرون العلم، ويزينونه بحسن الأداء والبيان واللسان والقلم، ولكن بعض المفسرين يفسرون الأحبار بأنهم علماء اليهود، ويشير إلى ذلك قوله تعالى: لولا ينهاهم الربانيون والأحبار عن قولهم الإثم وأكلهم السحت وأما علماء النصارى فيقال عنهم قسيسون، ويشير إلى ذلك قوله تعالى: ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا وأنهم لا يستكبرون والرهبان عباد النصارى، ولعلهم يقابلون الربانيين في اليهودية ولا مانع من هذه التسمية، ولعل إطلاق الأحبار ربما يسع القسيسين ليكون سيرا على الأصل اللغوي من معنى كلمة الأحبار.
وعبر سبحانه وتعالى عن كل كسب خبيث بقوله تعالى: (بالباطل) لأن الباطل يشمل أخذ المال بغير حق، يبرر الأخذ بالخديعة أو بالغش والتدليس والاتجار بدين الله تعالى.
ومع أنهم كانوا يخدعون الناس بتدينهم الآنف - وخصوصا الرهبان - كانوا يصدون عن سبيل الله تعالى، فقال تعالى: ويصدون عن سبيل الله كأنهم يتخذون مسوحهم ورياستهم الدينية لابتزاز الأموال، وأخذها بغير حقها، والعبث بها، واكتنازها متخذين في ذلك مظاهرهم ذريعة لمآثمهم، يصدون ويمنعون أتباعهم الذين اتخذوهم فريسة لأهوائهم من أن يتبعوا الحق والنور الذي جاء به محمد - صلى الله عليه وسلم - وهو سبيل الله الحق الذي لا يمتري فيه عاقل، ولا ذو قلب وبصر، كما قال تعالى: وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله
وإن الأموال التي يأخذونها يجمعونها ويكنزونها، ومأواهم جهنم، ولذا قال سبحانه بعد ذلك: [ ص: 3291 ] والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم
وهذا النص الكريم يبين أن جمع المال لا يجدي، ويضر صاحبه، ومآله شر في الدنيا والآخرة، والكنز في اللغة: الضم والجمع لكل شيء ثمين سواء دفن في باطن الأرض أو لم يدفن، ولكن شاع استعماله فيما يدفن في باطن الأرض، ولكن شيوعه لا يمنع أصل إطلاقه، ولا يمنع الشيوع من أن يطلق على الأصل اللغوي القوي.
ولقد قال شيخ المفسرين : الكنز كل شيء مجموع بعضه إلى بعض في بطن الأرض كان أو على ظهرها. الطبري
وظاهر الآية يدل على أنها عامة تعم الأحبار والرهبان وغيرهم من المسلمين وغيرهم، ولكنها سيقت في مقام الكلام على أكل الرهبان والأحبار لأموال الناس بالباطل، ولا يمنع ذلك من عموم; لأن لفظها عام، والعبرة بعموم اللفظ، وقد جرت مناقشة في ذلك بين الصحابي الجليل، أبي ذر ، ولنذكر بعضها: ومعاوية بن أبي سفيان
قال الحافظ ابن كثير : " كان من مذهب - رضي الله عنه - تحريم أبي ذر ، وكان يفتي بذلك، ويحث الناس عليه ويأمرهم به، ويغلظ في خلافه". ادخار ما زاد على نفقة العيال
كان الصحابي الطاهر المؤمن يعيش في الشام، والأمير ، معاوية وأبو ذر يجهر برأيه ويحث الناس عليه ويستنكر النعيم الذي يرفل فيه ومن يواليه، فأبلغ أمره إلى أمير المؤمنين معاوية ، فأحضر عثمان ذي النورين ، فاختار أبا ذر أن يقيم أبو ذر بالربذة ، ولكن الراجح من الروايات أن هو الذي أنزله بها، وبها مات رضي الله عنه. عثمان
وقد روى عن البخاري قال: مررت بالربذة فإذا أنا زيد بن وهب - رضي الله عنه - فقلت له: ما أنزلك منزلك هذا؟ قال: "كنت بالشأم، فاختلفت أنا بأبي ذر في الذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله" قال ومعاوية : نزلت في أهل الكتاب، فقلت: "نزلت فينا [ ص: 3292 ] وفيهم، فكان بيني وبينه في ذاك، وكتب إلى معاوية - رضي الله عنه - يشكوني، فكتب إلي عثمان : أن اقدم عثمان المدينة فقدمتها، فكثر علي الناس حتى كأنهم لم يروني قبل ذلك، فذكرت ذاك ، فقال لي: إن شئت تنحيت، فسكنت قريبا، فقال: فذاك الذي أنزلني هذا المنزل، ولو أمروا علي حبشيا لسمعت وأطعت". لعثمان
وإن هذا الحديث يدل على أنه اختار هذا البعد، وربما يكون قد اختار الربذة بالذات.
وفي المناقشة بينه وبين أغلظ، وقد أراد معاوية أن يغويه بالمال أو يختبره وهو عنده، أيوافق قوله عمله أم لا، فبعث إليه بألف دينار، ففرقها على الفقراء من يومه، ثم بعث إليه الذي أتاه بها، فقال: إن معاوية إنما بعثني إلى غيرك فأخطأت، فهات الذهب، فقال: ويحك! إنها خرجت، ولكن إذا جاء مالي حاسبتك. معاوية
وفي الحق أن قد أصاب كل الإصابة في قوله: إن الآية تعم الأحبار والرهبان وأتباع أبا ذر محمد - صلى الله عليه وسلم - وأخطأ ، وما معاوية وفقه القرآن! لمعاوية
ويحق إذن أن نقول: إن الآية عامة لا تخص الأحبار والرهبان، ولا نسير إلى المدى الذي يسير إليه سيدنا الصحابي المخلص بحيث لا يبيح لذي المال إلا ما يكفيه وعياله كما كان يفعل في ذات نفسه، ويدعو إليه. أبو ذر
روى ، الإمام أحمد - رضي الله عنه - أنه كان مع عبادة بن الصامت ، فخرج عطاؤه ومعه جارية، فجعلت تقضي حوائجه، فقضت منها سبعة، فقلت: لو ادخرت لحاجة بيوتك، وللضيف ينزل بك، فقال: إن خليلي أوصاني أن أيما ذهب أو فضة أوكئ عليه فهو جمر على صاحبه حتى يفرغه في سبيل الله إفراغا. أبي ذر عن
ولقد قال : "وردت عن ابن عبد البر آثار كثيرة تدل على أنه كان يذهب إلى أن كل مال مجموع يفضل عن القوت وسداد العيش فهو كنز يذم فاعله، وأن آية الوعيد نزلت في ذلك، وخالفه جمهور الصحابة ومن بعدهم، وحملوا الوعيد على مانعي الزكاة. أبي ذر
[ ص: 3293 ] ونحن نتبع جمهور الصحابة; وذلك لأنه إذا لم يبق شيء من المال بعد نفقاته ونفقات عياله لم يكن ثمة زكاة؛ لعدم وجود وعاء لها، فشرعية الزكاة توجب مالا مدخرا حولا، وذلك ينافي ما ذهب إليه رضي الله عنه. أبو ذر
وأيضا فإن الأخذ برأي الصحابي الجليل ينافي الميراث; لأن ، وقد منع الصحابي الجليل بقاء أي مال يورث أو تجب فيه الزكاة. الميراث يكون في المال الذي يبقى
وأيضا فإن معنى رأيه إلغاء ، وقد شرعت الوصية بالقرآن وبالحديث النبوي، فقد روي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد قال: " الوصية مع الميراث " ولقد كان من الصحابة من لهم ثروات في عصر النبي - صلى الله عليه وسلم - فما استنكرها عليهم، فعثمان كان ثريا وتاجرا، إن الله تصدق عليكم في آخر أعماركم بثلث مالكم فضعوه حيث شئتم كان ثريا وتاجرا، وعبد الرحمن بن عوف وأبو بكر كانا من ذوي الأموال. وعمر
وإنه لو أخذ برأي ما كانت التجارات؛ فأسواقها تقوم على رءوس الأموال، وما كانت الصناعات؛ فهي أيضا تقوم على رءوس الأموال. أبي ذر
من أجل هذا كان لا بد من تخصيص كنز الذهب والفضة الذي أوعد الله تعالى، وقد خصصوه من ذات النص القرآني فقد قال تعالى: والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله إن الوعيد على الأمرين مجتمعين لا على أمر واحد منهما، فليس الوعيد على الكنز لذات الكنز، وإنما الوعيد على الأمرين معا، على الكنز وعدم الإنفاق في سبيل الله تعالى، فإذا وجدا معا كان التبشير بالعذاب الأليم، وكان الوعيد الشديد لمن يمنع الإنفاق مع أنه يكنز المال، ولذا تضاربت الروايات على أن من يعطي الزكاة لا يكون عليه إثم الكانزين، بل إنه لا يعد كانزا من يخرج حقه في سبيل الله، وإنما الكانز هو الجامع للمال الذي يمنع حقه.
[ ص: 3294 ] وقد ورد ذلك عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بأن الذي يجمع المال، وإنما ورد في الأثر الصحيح: " الإنفاق يمنع إثم الكانز " . نعم المال الصالح في يد العبد الصالح
ويجب أن نشير هنا إلى أن الآية تشير إلى أن المال لا يكنز من الذهب والفضة، بل يجب أن يخرج للاستغلال الحلال بالاتجار، والصناعة، والزراعة، ولا يبقى في الخزائن، كالماء العطن الذي لا ينتفع به، وفي الآية إشارات بيانية:
منها - قوله تعالى: فبشرهم بعذاب فإن في الآية تهكما عليهم; لأن العذاب الأليم لا يبشر به، بل يهدد به، وفي التعبير بقوله تعالى: فبشرهم تهكم بهم، إذ إنهم كانوا يرتقبون خيرا في الآخرة من تكاثرهم في المال واكتنازه فجاءت العقبى غير ما يرتقبون.
ومنها - أن الضمير أعيد على الذهب والفضة بضمير المؤنث في قوله: ولا ينفقونها في سبيل الله لملاحظة المعنى وهو الدنانير من الذهب والدراهم من الفضة، وهي جمع، فأعيد عليها بضمير المؤنث، وهو لما لا يعقل يكون بالضمير المؤنث.
والثالثة - أنه ذكر الكنز في الذهب والفضة دون غيرهما مع أن الأموال كثيرة، وكان المال يطلق على النعم دون غيرها، وأجيب عنها بأن الذهب والفضة تطلق على كل المال، وهما مقياس التقدير لكل الأموال.
وقد قال في ذلك : إنهما قانون التمول وأثمان الأشياء، ولا يكنزهما إلا من فضلا عن حاجته، ومن كثرا عنده حتى يكنزهما لم يعدم سائر أجناس المال، فكان ذكر كنزهما دليلا على ما سواهما. الزمخشري
[ ص: 3295 ] هذا معنى الآية الكريمة فيما يظهر لنا، ويجب أن ننبه إلى أنه لا يصح النهم في المال إلا للقيام بمصلحة عامة، ولا يصح أن يكون المال مطلبا ذاتيا، وغرضا مقصودا لذاته لا للتمكن من النعم، فإنه حينئذ يلهي عن المقاصد السامية، كما قال تعالى: ألهاكم التكاثر حتى زرتم المقابر ولأنه يصير عبدا للمال، لا سيدا متصرفا، والنبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: " ". تعس عبد الدرهم
وقد روي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " تبا للذهب تبا للفضة" قالها ثلاثا فقالوا له: أي مال نتخذ؟ قال: "لسانا ذاكرا وقلبا خاشعا، وزوجة تعين أحدكم على دينه".
وقال - صلى الله عليه وسلم -: " " . من ترك صفراء أو بيضاء كوي بها