[ ص: 3297 ] ومن بعد كان الجهاد، وقدم الله تعالى بيان الأشهر الحرم حرامها وحلالها، فقال تعالى:
nindex.php?page=treesubj&link=19860_19863_32203_32204_7856_7860_28980nindex.php?page=tafseer&surano=9&ayano=36إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا في كتاب الله يوم خلق السماوات والأرض منها أربعة حرم ذلك الدين القيم فلا تظلموا فيهن أنفسكم وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة واعلموا أن الله مع المتقين nindex.php?page=tafseer&surano=9&ayano=37إنما النسيء زيادة في الكفر يضل به الذين كفروا يحلونه عاما ويحرمونه عاما ليواطئوا عدة ما حرم الله فيحلوا ما حرم الله زين لهم سوء أعمالهم والله لا يهدي القوم الكافرين
إن الله تعالى وقت العبادات غير الصلاة بشهور من السنة، فرمضان شهر القرآن، وشهر الصيام، وذو الحجة شهر الحج؛ لأن فيها يوم عرفات، والحج له أشهر معلومات كما قال تعالى:
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=197الحج أشهر معلومات فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج وهذه الأشهر هي شوال وذو القعدة وعشر من ذي الحجة، وجعلت الأشهر بالأهلة، تبتدئ برؤية الهلال وتنتهي برؤيته، كما قال تعالى:
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=189يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج وقال تعالى:
nindex.php?page=tafseer&surano=36&ayano=39والقمر قدرناه منازل حتى عاد كالعرجون القديم وقال تعالى:
nindex.php?page=tafseer&surano=17&ayano=12وجعلنا الليل والنهار آيتين فمحونا آية الليل وجعلنا آية النهار مبصرة لتبتغوا فضلا من ربكم ولتعلموا عدد السنين والحساب وكل شيء فصلناه تفصيلا وجعلت الأهلة علامة الشهور ابتداء وانتهاء، أو هي الشهور لأمرين:
[ ص: 3298 ] أولهما - أن يعلم ابتداء الشهر بالحس لا بالتقدير والحساب المجرد; فإن الأشهر الشمسية لا تعرف إلا بالحساب.
ثانيهما - ألا تتغير السنة بالزيادة والنقصان فتكون (كبيسة) فتزاد، أو (بسيطة) فلا تزاد، وإنها تتفق مع طبائع الناس.
وبذلك لا تتغير أوقات العبادات، ولا تختلف، وجعلها الله تعالى اثني عشر شهرا، وقد ثبت كل شهر في موضعه ذاته لا يفترق عنه، وقلنا: إن طبائع الناس تسير مع الأشهر العربية فثبت أن الحيض والحمل يتبعان الأشهر القمرية، وقد قال تعالى:
nindex.php?page=tafseer&surano=9&ayano=36إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا في كتاب الله و(عند الله) معناها في حكمه وتقديره سبحانه وتعالى، وعلينا أن نهتدي بما هدانا إليه.
وقوله تعالى:
nindex.php?page=tafseer&surano=9&ayano=36في كتاب الله أي: فيما كتبه علينا من أحكام متعلقة بهذه الأشهر، وقال بعض العلماء: المراد ما كتب في اللوح المحفوظ الذي فيه ما قدره الله تعالى بعباده، فهو لوحه المكنون.
ويقول سبحانه:
nindex.php?page=tafseer&surano=9&ayano=36منها أربعة حرم الضمير يعود إلى (عدة الشهور) وحرم جمع حرام، وقد فسرت بأنها التي حرم فيها القتال، وكان ذلك قبل الإسلام على شريعة
إبراهيم - عليه السلام - الذي تعود إليه مناسك الحج، وإذا كان المشركون قد حرفوا فيها وغيروا وبدلوا فإن الإسلام قد أعادها كما بدأت; لأنه ملة
إبراهيم - عليه السلام - كما قال تعالى:
nindex.php?page=tafseer&surano=22&ayano=78وما جعل عليكم في الدين من حرج ملة أبيكم إبراهيم هو سماكم المسلمين من قبل وفي هذا ليكون الرسول شهيدا عليكم وتكونوا شهداء على الناس
وهذه
nindex.php?page=treesubj&link=32204الأشهر الحرم هي ثلاثة سرد، ذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم، ورجب الذي بين جمادى وشعبان، وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - في خطبة الوداع مبينا شريعته، ومنها الأشهر الحرام، وكانت الخطبة في العام العاشر: "
nindex.php?page=hadith&LINKID=700368إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض، السنة اثنا عشر شهرا: منها أربعة [ ص: 3299 ] حرم، ثلاث متواليات، ذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم، ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان.
ثم قال: أي يوم هذا؟" قلنا: الله ورسوله أعلم، فسكت حتى ظننا أنه يسميه بغير اسمه، قال: «أليس يوم النحر؟» قلنا: بلى.
ثم قال: "أي شهر هذا؟" قلنا: الله ورسوله أعلم، فسكت حتى ظننا أنه يسميه بغير اسمه، قال: «أليس ذا الحجة؟» قلنا: بلى.
ثم قال: «أي بلد هذا؟» قلنا: الله ورسوله أعلم، فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه، قال: «أليس البلدة الحرام؟» قلنا: بلى. قال: "فإن دماءكم وأموالكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا، في بلدكم هذا، في شهركم هذا، وستلقون ربكم فيسألكم عن أعمالكم، ألا فلا ترجعوا بعدي كفارا، يضرب بعضكم رقاب بعض، ألا هل بلغت، ألا ليعلم الشاهد منكم الغائب، فلعل بعض من يبلغه أمر يكون أوعى له من بعض من سمعه.
وإن معنى قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "
nindex.php?page=hadith&LINKID=660187إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض " أن المشركين - كما سيتبين - يغيرون في الأشهر الحرم اتباعا لشهواتهم في القتال والغارات، فكانوا إذا جاء الشهر الحرام، وهم يتقاتلون، أو يريدون الغارة - أجلوه إلى ما يليه، ويسمون ذلك النسيء، كما سيأتي في الآية الآتية إن شاء الله تعالى، فمعنى قد استدار كهيئته يوم خلق السماوات والأرض أن هذا الوقت هو وقت صادق أنه في الأشهر الحرم.
nindex.php?page=treesubj&link=8193وتحريم القتال في هذه الأشهر فرض هدنة شرعية تحمل الناس على ألا يرفعوا السلاح ولا يقاتلوا، فتعود القضب إلى أجفانها فتكون الترويه، وإذا كان بين المتقاتلين هدنة يتروون فيها تكون كالنسيم العليل فتهدأ النفوس، وربما أنهت القتال، ألم تر أن هدنة الحديبية أنهت القتال بين النبي والمشركين.
وفوق ذلك فهذه الأشهر هي أشهر الحج، فيجب أن يكون فيها أمن الساري في ذهابه إلى الحج وأوبته، حتى تؤدى فرائض الله، والأشهر المتواليات أشهر
[ ص: 3300 ] الذهاب والأوبة، ورجب مضر كان شهر عمرة، فأمن ليتمكن من يريد العمرة من أن يعتمر فيه.
ولقد قال تعالى:
nindex.php?page=tafseer&surano=9&ayano=36ذلك الدين القيم الإشارة إلى ما تقدم من عدة الشهور، وتحريم القتال في أربع منها هو الدين، وعبر عنها بأنها الدين لمكان تحريمها من الشرع، وإن كانت بعض الدين، فذلك التعبير السامي تأكيد لمنع القتال في الأشهر الأربعة، و(القيم) معناه المستقيم القويم وكان كذلك; لأنه ما سلكه
إبراهيم باني البيت ورافع قواعده، ولأنه يكفكف حدة القتال، ولأنه يمكن قاصدي البيت من أن يصلوا إليه، ويعودوا منه.
وقال تعالى:
nindex.php?page=tafseer&surano=9&ayano=36فلا تظلموا فيهن أنفسكم الظلم المنهي عنه في هذه الأشهر الحرم هو ظلم أنفسهم باستمرار القتال فيها، فظلم للنفس أن يقاتل وقد منع من القتال، ولأنه عصيان لله، وكل عصيان لله تعالى فهو ظلم للنفس، وقال بعض العلماء: إن الظلم للنفس في الشهر الحرام هو أن يعتدى عليهم فلا يدافعوا عن أنفسهم ويردوا اعتداء غيرهم.
ونقول: إن القتال في هذه الحال لا يكون محرما في الشهر الحرام، بل المعتدي على الشهر غيرهم، والله تعالى يقول:
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=194الشهر الحرام بالشهر الحرام والحرمات قصاص
وبعد ذلك أمر الله تعالى بقتال المشركين كافة ردا لاعتدائهم فقال:
nindex.php?page=tafseer&surano=9&ayano=36وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة
وهذه لا تتنافى مع
nindex.php?page=treesubj&link=8197_8193تحريم القتال في الأشهر الحرم، بل إنها تؤيده في معناه، إن المشركين في غزوة الأحزاب وغيرها - وخصوصا إذا أدخلنا في عداد المشركين من كانوا يعبدون الأشخاص - كانوا يجتمعون كافة، فكان حقا على المؤمنين أن يجتمعوا كافة لهم، ولا يتخاذلوا أمامهم، وإن قاتلوا المؤمنين بكافتهم في الأشهر الحرم، وجب أن يجتمعوا كافة لمقاتلتهم ولا يتوانوا ويثاقلوا.
وكان غريبا أن يتخذ بعض الفقهاء من قوله تعالى:
nindex.php?page=tafseer&surano=9&ayano=36فلا تظلموا فيهن أنفسكم وقاتلوا المشركين دلالة على نسخ الأشهر الحرم، كأن بعض الآية يهدم
[ ص: 3301 ] بعضها الآخر، فأول الآية يبين شريعة الأشهر الحرم، وآخرها - في زعمهم الغريب عن كل معقول في القول - يهدمه، وهذا إذا كان في كلام الناس يكون غريبا، فكيف يكون مقبولا في كلام الله سبحانه وتعالى؟! بل من الغريب أنهم تنسخوها قبل تتميم حكمها بالكلام في النسيء، ويزكون وهمهم الكاذب بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - حاصر الطائف في الشهر الحرام، وإن الثابت تاريخيا أن النبي أنهى الحصار قبل انتهاء شوال.
وإن الحق أنه لا نسخ، ومن ادعى النسخ فقد ادعى أمرا غير معقول في ذاته، وذلك لما يأتي:
أولا - أن النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - أكد تحريم
nindex.php?page=treesubj&link=8193القتال في الأشهر الحرم في حجة الوداع، وبين أحكاما أخرى.
ثانيا - أن الله تعالى ذكر الشهر الحرام في آيات كثيرة منها قوله تعالى:
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=2يا أيها الذين آمنوا لا تحلوا شعائر الله ولا الشهر الحرام ولا الهدي ولا القلائد
وهذا في سورة المائدة التي هي من أواخر القرآن نزولا، وقال تعالى:
nindex.php?page=tafseer&surano=9&ayano=5فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وقال تعالى:
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=217يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبير
وهكذا تعددت الآيات المحرمة، ومع ذلك يدعي بعض الفقهاء النسخ بغير حجة إلا أن تكون موافقة الملوك الشرهين إلى الدماء، وتكون مع المسلمين، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
وقد أتم الله تعالى ما ذكره في تحريم القتال في الأشهر الحرم، وتلاعب المشركين به فقال:
nindex.php?page=tafseer&surano=9&ayano=37إنما النسيء زيادة في الكفر يضل به الذين كفروا يحلونه عاما ويحرمونه عاما ليواطئوا عدة ما حرم الله فيحلوا ما حرم الله زين لهم سوء أعمالهم والله لا يهدي القوم الكافرين [ ص: 3302 ] ختم الله تعالى الآية السابقة بقوله تعالى:
nindex.php?page=tafseer&surano=9&ayano=36واعلموا أن الله مع المتقين لإشعار المؤمنين بأنه من التقوى إطاعة الله في تحريم القتال في الأشهر الحرم حقنا للدماء، وأن الله تعالى لا يصاحب ولا ينصر إلا المتقين، وأكد ذلك بالأمر بالعلم، كما أكده بالصحبة السامية لله تعالى، وبالجملة الاسمية.
ولذلك ذكر من بعد ذلك الاعتداء على الأشهر الحرم بالنسيء، والنسيء معناه التأخير والتأجيل، يقال: (نسأ) بمعنى أخر وأجل، ومنه قوله صلى الله تعالى عليه وسلم: "
nindex.php?page=hadith&LINKID=651925من أراد منكم أن يبارك له في رزقه، وينسأ له في أجله - فليصل رحمه ".
وكانت طريقة النسيء أن يجيء إلى المحرم وهو من الشهر الحرام فيستبيح القتال فيه، ويؤجل التحريم إلى صفر، فيستبدل بالشهر الحرام شهرا حلالا، ولأنه يريد الغارة، وقالوا: إنما كانوا يفعلون ذلك رغبة في الغارات، وطمعا في الأموال من النعم، ويذكر
nindex.php?page=showalam&ids=12563ابن إسحاق في سيرته أن أول من فعل ذلك رجل من
كنانة اسمه "
القلمس ".
[ ص: 3297 ] وَمِنْ بَعْدُ كَانَ الْجِهَادُ، وَقَدَّمَ اللَّهُ تَعَالَى بَيَانَ الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ حَرَامَهَا وَحَلَالَهَا، فَقَالَ تَعَالَى:
nindex.php?page=treesubj&link=19860_19863_32203_32204_7856_7860_28980nindex.php?page=tafseer&surano=9&ayano=36إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ nindex.php?page=tafseer&surano=9&ayano=37إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ
إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَقَّتَ الْعِبَادَاتِ غَيْرِ الصَّلَاةِ بِشُهُورٍ مِنَ السَّنَةِ، فَرَمَضَانُ شَهْرُ الْقُرْآنِ، وَشَهْرُ الصِّيَامِ، وَذُو الْحِجَّةِ شَهْرُ الْحَجِّ؛ لِأَنَّ فِيهَا يَوْمَ عَرَفَاتٍ، وَالْحَجُّ لَهُ أَشْهَرٌ مَعْلُومَاتٌ كَمَا قَالَ تَعَالَى:
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=197الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَهَذِهِ الْأَشْهُرُ هِيَ شَوَّالٌ وَذُو الْقِعْدَةِ وَعَشْرٌ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ، وَجُعِلَتِ الْأَشْهُرُ بِالْأَهِلَّةِ، تَبْتَدِئُ بِرُؤْيَةِ الْهِلَالِ وَتَنْتَهِي بِرُؤْيَتِهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=189يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَقَالَ تَعَالَى:
nindex.php?page=tafseer&surano=36&ayano=39وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ وَقَالَ تَعَالَى:
nindex.php?page=tafseer&surano=17&ayano=12وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلا مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلا وَجُعِلَتِ الْأَهِلَّةُ عَلَامَةَ الشُّهُورِ ابْتِدَاءً وَانْتِهَاءً، أَوْ هِيَ الشُّهُورُ لِأَمْرَيْنِ:
[ ص: 3298 ] أَوَّلُهُمَا - أَنْ يُعْلَمَ ابْتِدَاءُ الشَّهْرِ بِالْحِسِّ لَا بِالتَّقْدِيرِ وَالْحِسَابِ الْمُجَرَّدِ; فَإِنَّ الْأَشْهُرَ الشَّمْسِيَّةَ لَا تُعْرَفُ إِلَّا بِالْحِسَابِ.
ثَانِيهِمَا - أَلَّا تَتَغَيَّرَ السَّنَةُ بِالزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ فَتَكُونُ (كَبِيسَةً) فَتُزَادُ، أَوْ (بَسِيطَةً) فَلَا تُزَادُ، وَإِنَّهَا تَتَّفِقُ مَعَ طَبَائِعِ النَّاسِ.
وَبِذَلِكَ لَا تَتَغَيَّرُ أَوْقَاتُ الْعِبَادَاتِ، وَلَا تَخْتَلِفُ، وَجَعَلَهَا اللَّهُ تَعَالَى اثْنَيْ عَشَرَ شَهْرًا، وَقَدْ ثَبَتَ كُلُّ شَهْرٍ فِي مَوْضِعِهِ ذَاتِهِ لَا يَفْتَرِقُ عَنْهُ، وَقُلْنَا: إِنْ طَبَائِعَ النَّاسِ تَسِيرُ مَعَ الْأَشْهُرِ الْعَرَبِيَّةِ فَثَبَتَ أَنَّ الْحَيْضَ وَالْحَمْلَ يَتْبَعَانِ الْأَشْهُرَ الْقَمَرِيَّةَ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى:
nindex.php?page=tafseer&surano=9&ayano=36إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ وَ(عِنْدَ اللَّهِ) مَعْنَاهَا فِي حُكْمِهِ وَتَقْدِيرِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وَعَلَيْنَا أَنْ نَهْتَدِيَ بِمَا هَدَانَا إِلَيْهِ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى:
nindex.php?page=tafseer&surano=9&ayano=36فِي كِتَابِ اللَّهِ أَيْ: فِيمَا كَتَبَهُ عَلَيْنَا مِنْ أَحْكَامٍ مُتَعَلِّقَةٍ بِهَذِهِ الْأَشْهُرِ، وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: الْمُرَادُ مَا كُتِبَ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ الَّذِي فِيهِ مَا قَدَّرَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِعِبَادِهِ، فَهُوَ لَوْحُهُ الْمَكْنُونُ.
وَيَقُولُ سُبْحَانَهُ:
nindex.php?page=tafseer&surano=9&ayano=36مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ الضَّمِيرُ يَعُودُ إِلَى (عِدَّةَ الشُّهُورِ) وَحُرُمٌ جَمْعُ حَرَامٍ، وَقَدْ فُسِّرَتْ بِأَنَّهَا الَّتِي حُرِّمَ فِيهَا الْقِتَالُ، وَكَانَ ذَلِكَ قَبْلَ الْإِسْلَامِ عَلَى شَرِيعَةِ
إِبْرَاهِيمَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - الَّذِي تَعُودُ إِلَيْهِ مَنَاسِكُ الْحَجِّ، وَإِذَا كَانَ الْمُشْرِكُونَ قَدْ حَرَّفُوا فِيهَا وَغَيَّرُوا وَبَدَّلُوا فَإِنَّ الْإِسْلَامَ قَدْ أَعَادَهَا كَمَا بَدَأَتْ; لِأَنَّهُ مِلَّةُ
إِبْرَاهِيمَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - كَمَا قَالَ تَعَالَى:
nindex.php?page=tafseer&surano=22&ayano=78وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ
وَهَذِهِ
nindex.php?page=treesubj&link=32204الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ هِيَ ثَلَاثَةٌ سَرْدٌ، ذُو الْقِعْدَةِ، وَذُو الْحِجَّةِ، وَالْمُحَرَّمُ، وَرَجَبٌ الَّذِي بَيْنَ جُمَادَى وَشَعْبَانَ، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي خُطْبَةِ الْوَدَاعِ مُبَيِّنًا شَرِيعَتَهُ، وَمِنْهَا الْأَشْهُرُ الْحَرَامُ، وَكَانَتِ الْخُطْبَةُ فِي الْعَامِ الْعَاشِرِ: "
nindex.php?page=hadith&LINKID=700368إِنَّ الزَّمَانَ قَدِ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ، السَّنَةُ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا: مِنْهَا أَرْبَعَةٌ [ ص: 3299 ] حُرُمٌ، ثَلَاثٌ مُتَوَالِيَاتٌ، ذُو الْقَعْدَةِ، وَذُو الْحَجَّةِ، وَالْمُحَرَّمُ، وَرَجَبُ مُضَرَ الَّذِي بَيْنَ جُمَادَى وَشَعْبَانَ.
ثُمَّ قَالَ: أَيُّ يَوْمٍ هَذَا؟" قُلْنَا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، فَسَكَتَ حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ يُسَمِّيهِ بِغَيْرِ اسْمِهِ، قَالَ: «أَلَيْسَ يَوْمُ النَّحْرِ؟» قُلْنَا: بَلَى.
ثُمَّ قَالَ: "أَيُّ شَهْرٍ هَذَا؟" قُلْنَا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، فَسَكَتَ حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ يُسَمِّيهِ بِغَيْرِ اسْمِهِ، قَالَ: «أَلَيْسَ ذَا الْحِجَّةِ؟» قُلْنَا: بَلَى.
ثُمَّ قَالَ: «أَيُّ بَلَدٍ هَذَا؟» قُلْنَا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، فَسَكَتَ حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ سَيُسَمِّيهِ بِغَيْرِ اسْمِهِ، قَالَ: «أَلَيْسَ الْبَلْدَةَ الْحَرَامَ؟» قُلْنَا: بَلَى. قَالَ: "فَإِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ حَرَامٌ عَلَيْكُمْ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا، فِي بَلَدِكُمْ هَذَا، فِي شَهْرِكُمْ هَذَا، وَسَتَلْقَوْنَ رَبَّكُمْ فَيَسْأَلُكُمْ عَنْ أَعْمَالِكُمْ، أَلَا فَلَا تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفَّارًا، يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ، أَلَا هَلْ بَلَّغْتُ، أَلَا لِيُعْلِمِ الشَّاهِدُ مِنْكُمُ الْغَائِبَ، فَلَعَلَّ بَعْضَ مَنْ يَبْلُغُهُ أَمْرٌ يَكُونُ أَوْعَى لَهُ مِنْ بَعْضِ مَنْ سَمِعَهُ.
وَإِنَّ مَعْنَى قَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "
nindex.php?page=hadith&LINKID=660187إِنَّ الزَّمَانَ قَدِ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ " أَنَّ الْمُشْرِكِينَ - كَمَا سَيَتَبَيَّنُ - يُغِيرُونَ فِي الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ اتِّبَاعًا لِشَهَوَاتِهِمْ فِي الْقِتَالِ وَالْغَارَاتِ، فَكَانُوا إِذَا جَاءَ الشَّهْرُ الْحَرَامُ، وَهُمْ يَتَقَاتَلُونَ، أَوْ يُرِيدُونَ الْغَارَةَ - أَجَّلُوهُ إِلَى مَا يَلِيهِ، وَيُسَمُّونَ ذَلِكَ النَّسِيءَ، كَمَا سَيَأْتِي فِي الْآيَةِ الْآتِيَةِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، فَمَعْنَى قَدِ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنَّ هَذَا الْوَقْتَ هُوَ وَقْتٌ صَادِقٌ أَنَّهُ فِي الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ.
nindex.php?page=treesubj&link=8193وَتَحْرِيمُ الْقِتَالِ فِي هَذِهِ الْأَشْهُرِ فَرْضُ هُدْنَةٍ شَرْعِيَّةٍ تَحْمِلُ النَّاسَ عَلَى أَلَّا يَرْفَعُوا السِّلَاحَ وَلَا يُقَاتِلُوا، فَتَعُودُ الْقُضُبُ إِلَى أَجْفَانِهَا فَتَكُونُ التَّرْوِيَهُ، وَإِذَا كَانَ بَيْنَ الْمُتَقَاتِلِينَ هُدْنَةٌ يَتَرَوَّوْنَ فِيهَا تَكُونُ كَالنَّسِيمِ الْعَلِيلِ فَتَهْدَأُ النُّفُوسُ، وَرُبَّمَا أَنْهَتِ الْقِتَالَ، أَلَمْ تَرَ أَنَّ هُدْنَةَ الْحُدَيْبِيَةِ أَنْهَتِ الْقِتَالَ بَيْنَ النَّبِيِّ وَالْمُشْرِكِينَ.
وَفَوْقَ ذَلِكَ فَهَذِهِ الْأَشْهُرُ هِيَ أَشْهُرُ الْحَجِّ، فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ فِيهَا أَمْنُ السَّارِي فِي ذَهَابِهِ إِلَى الْحَجِّ وَأَوْبَتِهِ، حَتَّى تُؤَدَّى فَرَائِضُ اللَّهِ، وَالْأَشْهُرُ الْمُتَوَالِيَاتُ أَشْهَرُ
[ ص: 3300 ] الذَّهَابِ وَالْأَوْبَةِ، وَرَجَبُ مُضَرَ كَانَ شَهْرَ عُمْرَةٍ، فَأُمِّنَ لِيَتَمَكَّنَّ مَنْ يُرِيدُ الْعُمْرَةَ مِنْ أَنْ يَعْتَمِرَ فِيهِ.
وَلَقَدْ قَالَ تَعَالَى:
nindex.php?page=tafseer&surano=9&ayano=36ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ الْإِشَارَةُ إِلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ عِدَّةِ الشُّهُورِ، وَتَحْرِيمُ الْقِتَالِ فِي أَرْبَعٍ مِنْهَا هُوَ الدِّينُ، وَعَبَّرَ عَنْهَا بِأَنَّهَا الدِّينُ لِمَكَانِ تَحْرِيمِهَا مِنَ الشَّرْعِ، وَإِنْ كَانَتْ بَعْضَ الدِّينِ، فَذَلِكَ التَّعْبِيرُ السَّامِي تَأْكِيدٌ لِمَنْعِ الْقِتَالِ فِي الْأَشْهُرِ الْأَرْبَعَةِ، وَ(الْقَيِّمُ) مَعْنَاهُ الْمُسْتَقِيمُ الْقَوِيمُ وَكَانَ كَذَلِكَ; لِأَنَّهُ مَا سَلَكَهُ
إِبْرَاهِيمُ بَانِي الْبَيْتِ وَرَافِعُ قَوَاعِدِهِ، وَلِأَنَّهُ يُكَفْكِفُ حِدَّةَ الْقِتَالِ، وَلِأَنَّهُ يُمَكِّنُ قَاصِدِي الْبَيْتِ مِنْ أَنْ يَصِلُوا إِلَيْهِ، وَيَعُودُوا مِنْهُ.
وَقَالَ تَعَالَى:
nindex.php?page=tafseer&surano=9&ayano=36فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ الظُّلْمُ الْمَنْهِيُّ عَنْهُ فِي هَذِهِ الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ هُوَ ظُلْمُ أَنْفُسِهِمْ بِاسْتِمْرَارِ الْقِتَالِ فِيهَا، فَظُلْمٌ لِلنَّفْسِ أَنْ يُقَاتِلَ وَقَدْ مُنِعَ مِنَ الْقِتَالِ، وَلِأَنَّهُ عِصْيَانٌ لِلَّهِ، وَكُلُّ عِصْيَانٍ لِلَّهِ تَعَالَى فَهُوَ ظُلْمٌ لِلنَّفْسِ، وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: إِنَّ الظُّلْمَ لِلنَّفْسِ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ هُوَ أَنْ يُعْتَدَى عَلَيْهِمْ فَلَا يُدَافِعُوا عَنْ أَنْفُسِهِمْ وَيَرُدُّوا اعْتِدَاءَ غَيْرِهِمْ.
وَنَقُولُ: إِنَّ الْقِتَالَ فِي هَذِهِ الْحَالِ لَا يَكُونُ مُحَرَّمًا فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ، بَلِ الْمُعْتَدِي عَلَى الشَّهْرِ غَيْرُهُمْ، وَاللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ:
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=194الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ
وَبَعْدَ ذَلِكَ أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِقِتَالِ الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً رَدًّا لِاعْتِدَائِهِمْ فَقَالَ:
nindex.php?page=tafseer&surano=9&ayano=36وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً
وَهَذِهِ لَا تَتَنَافَى مَعَ
nindex.php?page=treesubj&link=8197_8193تَحْرِيمِ الْقِتَالِ فِي الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ، بَلْ إِنَّهَا تُؤَيِّدُهُ فِي مَعْنَاهُ، إِنَّ الْمُشْرِكِينَ فِي غَزْوَةِ الْأَحْزَابِ وَغَيْرِهَا - وَخُصُوصًا إِذَا أَدْخَلْنَا فِي عِدَادِ الْمُشْرِكِينَ مَنْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْأَشْخَاصَ - كَانُوا يَجْتَمِعُونَ كَافَّةً، فَكَانَ حَقًّا عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَجْتَمِعُوا كَافَّةً لَهُمْ، وَلَا يَتَخَاذَلُوا أَمَامَهُمْ، وَإِنْ قَاتَلُوا الْمُؤْمِنِينَ بِكَافَّتِهِمْ فِي الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ، وَجَبَ أَنْ يَجْتَمِعُوا كَافَّةً لِمُقَاتَلَتِهِمْ وَلَا يَتَوَانَوْا وَيَثَّاقَلُوا.
وَكَانَ غَرِيبًا أَنْ يَتَّخِذَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى:
nindex.php?page=tafseer&surano=9&ayano=36فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ دَلَالَةً عَلَى نَسْخِ الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ، كَأَنَّ بَعْضَ الْآيَةِ يَهْدِمُ
[ ص: 3301 ] بَعْضَهَا الْآخَرَ، فَأَوَّلُ الْآيَةِ يُبَيِّنُ شَرِيعَةَ الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ، وَآخِرُهَا - فِي زَعْمِهِمُ الْغَرِيبِ عَنْ كُلِّ مَعْقُولٍ فِي الْقَوْلِ - يَهْدِمُهُ، وَهَذَا إِذَا كَانَ فِي كَلَامِ النَّاسِ يَكُونُ غَرِيبًا، فَكَيْفَ يَكُونُ مَقْبُولًا فِي كَلَامِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى؟! بَلْ مِنَ الْغَرِيبِ أَنَّهُمْ تَنَسَّخُوهَا قَبْلَ تَتْمِيمِ حُكْمِهَا بِالْكَلَامِ فِي النَّسِيءِ، وَيُزَكُّونَ وَهْمَهُمُ الْكَاذِبَ بِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَاصَرَ الطَّائِفَ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ، وَإِنَّ الثَّابِتَ تَارِيخِيًّا أَنَّ النَّبِيَّ أَنْهَى الْحِصَارَ قَبْلَ انْتِهَاءِ شَوَّالٍ.
وَإِنَّ الْحَقَّ أَنَّهُ لَا نَسْخَ، وَمَنِ ادَّعَى النَّسْخَ فَقَدِ ادَّعَى أَمْرًا غَيْرَ مَعْقُولٍ فِي ذَاتِهِ، وَذَلِكَ لِمَا يَأْتِي:
أَوَّلًا - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَكَّدَ تَحْرِيمَ
nindex.php?page=treesubj&link=8193الْقِتَالِ فِي الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ فِي حِجَّةِ الْوَدَاعِ، وَبَيَّنَ أَحْكَامًا أُخْرَى.
ثَانِيًا - أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذَكَرَ الشَّهْرَ الْحَرَامَ فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ مِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى:
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=2يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلا الْهَدْيَ وَلا الْقَلائِدَ
وَهَذَا فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ الَّتِي هِيَ مِنْ أَوَاخِرِ الْقُرْآنِ نُزُولًا، وَقَالَ تَعَالَى:
nindex.php?page=tafseer&surano=9&ayano=5فَإِذَا انْسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَقَالَ تَعَالَى:
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=217يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ
وَهَكَذَا تَعَدَّدَتِ الْآيَاتُ الْمُحَرِّمَةُ، وَمَعَ ذَلِكَ يَدَّعِي بَعْضُ الْفُقَهَاءِ النَّسْخَ بِغَيْرِ حُجَّةٍ إِلَّا أَنْ تَكُونَ مُوَافَقَةُ الْمُلُوكِ الشَّرِهِينَ إِلَى الدِّمَاءِ، وَتَكُونُ مَعَ الْمُسْلِمِينَ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ.
وَقَدْ أَتَمَّ اللَّهُ تَعَالَى مَا ذَكَرَهُ فِي تَحْرِيمِ الْقِتَالِ فِي الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ، وَتَلَاعُبِ الْمُشْرِكِينَ بِهِ فَقَالَ:
nindex.php?page=tafseer&surano=9&ayano=37إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ [ ص: 3302 ] خَتَمَ اللَّهُ تَعَالَى الْآيَةَ السَّابِقَةَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى:
nindex.php?page=tafseer&surano=9&ayano=36وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ لِإِشْعَارِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّهُ مِنَ التَّقْوَى إِطَاعَةُ اللَّهِ فِي تَحْرِيمِ الْقِتَالِ فِي الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ حَقْنًا لِلدِّمَاءِ، وَأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يُصَاحِبُ وَلَا يَنْصُرُ إِلَّا الْمُتَّقِينَ، وَأَكَّدَ ذَلِكَ بِالْأَمْرِ بِالْعِلْمِ، كَمَا أَكَّدَهُ بِالصُّحْبَةِ السَّامِيَةِ لِلَّهِ تَعَالَى، وَبِالْجُمْلَةِ الِاسْمِيَّةِ.
وَلِذَلِكَ ذَكَرَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ الِاعْتِدَاءَ عَلَى الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ بِالنَّسِيءِ، وَالنَّسِيءُ مَعْنَاهُ التَّأْخِيرُ وَالتَّأْجِيلُ، يُقَالُ: (نَسَأَ) بِمَعْنَى أَخَّرَ وَأَجَّلَ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "
nindex.php?page=hadith&LINKID=651925مَنْ أَرَادَ مِنْكُمْ أَنْ يُبَارَكَ لَهُ فِي رِزْقِهِ، وَيُنْسَأَ لَهُ فِي أَجْلِهِ - فَلْيَصِلْ رَحِمَهُ ".
وَكَانَتْ طَرِيقَةُ النَّسِيءِ أَنْ يَجِيءَ إِلَى الْمُحَرَّمِ وَهُوَ مِنَ الشَّهْرِ الْحَرَامِ فَيَسْتَبِيحُ الْقِتَالَ فِيهِ، وَيُؤَجِّلُ التَّحْرِيمَ إِلَى صَفَرٍ، فَيَسْتَبْدِلُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ شَهْرًا حَلَالًا، وَلِأَنَّهُ يُرِيدُ الْغَارَةَ، وَقَالُوا: إِنَّمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ ذَلِكَ رَغْبَةً فِي الْغَارَاتِ، وَطَمَعًا فِي الْأَمْوَالِ مِنَ النَّعَمِ، وَيَذْكُرُ
nindex.php?page=showalam&ids=12563ابْنُ إِسْحَاقَ فِي سِيرَتِهِ أَنَّ أَوَّلَ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ رَجُلٌ مِنْ
كِنَانَةَ اسْمُهُ "
الْقَلَمَّسُ ".