لقد ابتغوا الفتنة من قبل وقلبوا لك الأمور حتى جاء الحق وظهر أمر الله وهم كارهون .
الضمير يعود إلى الذين استأذنوا من النبي - صلى الله عليه وسلم - وثبطوا المؤمنين، وهم المنافقون، و(ابتغوا الفتنة) أي طلبوها بشدة راغبين فيها، قاصدين الفتنة أي: تضليل المؤمنين، والإفساد من قبل، أي: من قبل ذلك التخذيل الذي بدا منهم الآن، فذلك ديدنهم، وما أرادوا بالإسلام إلا خبالا، حتى لقد روي أنهم - والأوس والخزرج كانوا يبايعون النبي صلى الله عليه وسلم بالعقبة - كانوا يدبرون الأمور لاغتياله عند مقدمه المدينة كما روى . ابن جريج
ولقد قال في ذلك الحافظ ابن كثير : لقد ابتغوا الفتنة من قبل وقلبوا لك الأمور أي: لقد أعملوا فكرهم وأجالوا آراءهم في كيدك وكيد أصحابك، وخذلان دينك، وإخماده مدة طويلة، وذلك أوان مقدم النبي - صلى الله عليه وسلم - المدينة، ورمته العرب عن قوس واحدة، وما رتبه يهود المدينة ومنافقوها، فلما نصره الله يوم بدر، وأعلى كلمته - قال عبد الله بن أبي : هذا أمر قد توجه، فدخلوا في الإسلام ظاهرا، ثم كلما أعز الله الإسلام وأهله غاظهم ذلك وساءهم.
وقال سبحانه وتعالى: وقلبوا لك الأمور أي صرفوها ودبروها، وكانوا أحيانا يمالئون أعداء الدين من أهل الكتاب والمشركين، ومرة يخذلون المؤمنين، ومرة يدخلون في الغزوات مجاهدين، ثم يعدلون ليلقوا التردد في نفوس المؤمنين كما فعلوا في غزوة أحد، ومرة يحرضون من يوالونهم من بعض الأوس والخزرج لحوادث صغيرة يثيرونها؛ حتى كادت تكون فتنة بين الحيين من الأنصار، فهم في فتنهم الدائمة المستمرة، يلبسون لكل حال لبوسها، يحركهم الكفر، ويدفعهم النفاق [ ص: 3324 ] إلى أن يرتكبوا حماقات، وإنهم ليتعدون حدودهم، فيثيرون حديث الإفك حتى تململ منهم ذووهم، وأصبح أهل كل بيت فيه منافق يحرضون النبي - صلى الله عليه وسلم - عليه.
وهكذا مضى أمرهم، والإسلام ماض في طريق الحق، حتى وصل إلى غايته، وهذا قوله تعالى: وظهر أمر الله وهم كارهون أي ظهرت أحكام الإسلام، وهي أمر الله، وانتشر في الوجود أمره، وهم كارهون، أي: ظهر مع تدبيرهم الفاسد، وبغضهم الشديد له.
وكانوا يتدرعون بكل الحيل ليأذن لهم النبي - صلى الله عليه وسلم - والله تعالى في علمه المكنون أنهم لا يخرجون وكره انبعاثهم، وما كرهه الله تعالى لا يمكن أن يتحقق،