وقد ذكر الله تعالى بعد ذلك أصحاب الأعذار المقبولة فقال:
ليس على الضعفاء ولا على المرضى ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون حرج إذا نصحوا لله ورسوله
في هذه الآية وما بعدها بيان الأعذار التي تبيح التخلف عن الخروج، ولم يذكرها القرآن الكريم بعنوان أنها أعذار، ولكن النص يفيد أنه لا إثم إذا تخلفوا، وذلك للإشارة إلى أن الجهاد غير واجب على هؤلاء، والاعتذار إنما يكون عند الوجوب والتخلف، وإذا لم يكن وجوب فالتخلف حينئذ له رخصة، وهؤلاء عاجزون عن القيام بهذا، والله لا يكلف العاجزين; لأنه تعالى يقول: لا يكلف الله نفسا إلا وسعها فالجهاد غير واجب عليهم، وذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن لهم فضل المجاهدين إذا نصحوا لله ورسوله، والنصح إخلاص القلب واللسان والعمل لله تعالى فالقلب لا يحدث إلا بالله، واللسان لا ينطق إلا مخلصا، والعمل لا يكون إلا لله تعالى، ويقال نصح له القول إذا أخلص له في قوله، ونصح له في العمل إذا أخلص له، ولقد روى في صحيحه عن مسلم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: تميم [ ص: 3410 ] الداري . " الدين النصيحة، ثلاثا، قلنا: لمن؟ قال: لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم "
وجاء في تفسير القرطبي: قال العلماء: والرغبة في محابه، والبعد عن مساخطه، والنصيحة لرسوله التصديق بنبوته والتزام طاعته في أمره ونهيه، وموالاة من والاه، ومعاداة من عاداه، وتوقيره، ومحبة آل بيته ( أي: الذين اتبعوا هديه) وتعظيمه، وتعظيم سنته، وإحياؤها بعد موته بالبحث عنها والتفقه فيها والذب عنها ونشرها والدعاء إليها والتخلق بأخلاقه الكريمة - صلى الله عليه وسلم -. النصيحة لله إخلاص الاعتقاد في الوحدانية ووصفه بصفات الألوهية وتنزيهه عن النقائص،
وإكرامه والتخلق به. والنصح لأئمة المسلمين بترك الخروج عليهم، وإرشادهم إلى الحق وتنبيههم فيما أغلوه من أجور المسلمين، ولزوم طاعتهم في الحق والقيام بواجب حقهم. والنصح لكتاب الله قراءته والتفقه فيه، والذب عنه وتعليمه،
وإرادة الخير لكافتهم. والنصح للعامة ترك معاداتهم، وإرشادهم، وحب الصالحين والدعاء لجميعهم،
والمراد أنه لا إثم في التخلف على من سقط عنه واجب الجهاد إذا نصحوا لله ورسوله، إن استقامت قلوبهم وألسنتهم، وقاموا بحق الإرشاد والتنبيه، وإن كان لهم رأي في الجهاد وجهوه، وكأنهم إذا سقط واجب الجهاد بالسيف، والاعتراك في المعركة، فإنهم يحملون واجبا آخر هو الإرشاد والتوجيه، والمعاونة بكل ما يستطيعون، وإنهم إذا كانوا كذلك فإن لهم فضل الجهاد. [ ص: 3411 ]
وروى أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: أبو داود بالمدينة!! فقال: " حبسهم العذر " . " لقد تركتم أقواما ما سرتم مسيرا ولا أنفقتم من نفقة ولا قطعتم من واد، إلا وهم معكم فيه "، قالوا: يا رسول الله وكيف يكونون معنا وهم
وهؤلاء والاشتراك في المعركة، ذكرهم الله تعالى فقال: الذين سقط عنهم واجب الجهاد بالسيف، ليس على الضعفاء ولا على المرضى ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون حرج أي: إثم أو أن يكلفوا أنفسهم العنت والضيق. والضعفاء هم الشيوخ الذي أثقلتهم السن، والنساء والصبيان، وغيرهم من الذين لا تتحمل أجسامهم لضعف بنيتهم، وخور منتهم ، والأعمى والأعرج، كما قال تعالى: ليس على الأعمى حرج ولا على الأعرج حرج ولا على المريض حرج ومن يطع الله ورسوله يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار ومن يتول يعذبه عذابا أليما
والضعفاء الذين عذرهم، وفيهم الأعمى والأعرج وعذرهم ثابت دائم، وهناك أمر ليس بدائم، وهو عارض، ولكنه يسقط الوجوب في مدة وجوده، وهو المرض الشديد الذي يقعد عن القيام بالواجب أو يزيده الجهاد مرضا.