وهناك عجز ليس في ذات الجسم دائما، أو عارض قابل للزوال، وهو ألا يجد ما ينفق منه على نفسه في رحلته، وقال تعالى فيه: ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون حرج
وكل لا يجب عليهم الجهاد، ولكن يجب عليهم أن ينصحوا لله ورسوله، وقد بينا ما قال العلماء في ذلك، وأنهم بإخلاصهم ونصيحتهم، والقيام بالواجب الذي يقدرون قد أحسنوا في جنب الله، ولذا قال تعالى: ما على المحسنين من سبيل [ ص: 3412 ]
وهذا النص السامي من جوامع الكلم. . وهو يفيد أن هؤلاء الذين قعدوا بأعذار حقيقية إذا نصحوا لله ورسوله محسنون، أي: قاموا بالواجب وزيادة، ومن أحسن لا عقاب عليه، ومعنى قوله تعالى: ما على المحسنين من سبيل أي: طريق لتأثيم، أو لوم أو عتاب، أو تعييب لموقفهم; إذ إن موقفهم أنهم قاموا بالواجب على قدر طاقتهم.
وهناك صنف غير من ذكرنا ليسوا ضعفاء، ولا مرضى، ويجدون ما ينفقون، ولكن لا يجدون ما يحملهم في هذه الشقة البعيدة، وهم يسقط الوجوب عليهم، وقد قال تعالى فيهم:
ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم قلت لا أجد ما أحملكم عليه تولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزنا ألا يجدوا ما ينفقون
(الواو) هنا عاطفة عطفت ما بعدها على قوله تعالى: ليس على الضعفاء ولا على المرضى وتكرار لا لتأكيد نفي القدرة، وتحقق العذر وثبوته.
فهؤلاء الأصناف أربعة: الضعفاء، والمرضى، والذين لا يجدون ما ينفقونه من زاد، والصنف الرابع الذين لا يجدون ما يحملون عليه، وكان الرجل كما قال يحتاج إلى بعيرين، بعير يركبه، وبعير يحمل الزاد والماء في هذه الرحلة الشاقة. ابن عباس
وقد قال في هؤلاء مبينا حالهم: ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم قلت لا أجد ما أحملكم عليه وهذا يدل على أنهم لا يجدون ما يحملهم، ويدل على أنهم شكوا حالهم لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأن الرسول لم يجد ما يحملهم، وذلك صريح، وهذا الكلام فيه من إيجاز الحذف ما لا يمكن أن يكون إلا في أبلغ كلام وهو كلام رب العالمين، وما في قوله تعالى: إذا ما أتوك لتأكيد فعل الشرط، وهو مجيئهم للنبي - صلى الله عليه وسلم - وعرض حالهم، ومحاولة النبي - صلى الله عليه وسلم - علاج [ ص: 3413 ] أمرهم، والبحث عما يحملهم عليه، وجواب الشرط هو قوله تعالى: تولوا وأعينهم تفيض من الدمع تولوا معناها انصرفوا، وحالهم مؤلمة باكية، وعبر عنه بقوله: وأعينهم تفيض من الدمع حزنا وقوله تعالى: قلت لا أجد ما أحملكم جملة معترضة بين فعل الشرط وجوابه، أو حال الكاف في أتوك وهذا ما اختاره الزمخشري.
وقوله تعالى: تولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزنا
(الواو) واو الحال، و: تفيض من الدمع حزنا فيه مجاز في إسناد الفيض إلى العين; لأن معناه أن العين ذاتها تفيض كأنها صارت دمعا، لامتلائها، واغروراقها، و: (من) بيانية، أي: أن تفيض العين من الدمع، والجار والمجرور في مقام التمييز، كما تقول فاضت العين دمعا، وقوله: حزنا حال، أي: فاضت العين دمعا لأجل الحزن الذي استولى بسبب الحرمان من الجهاد، وهو متعة نفوسهم، وغاية ما يبتغون عند ربهم.
ألا يجدوا ما ينفقون وألا يجدوا، المصدر المؤول، ويكون المعنى هم في حال حزن شديد، ألا يجدوا أي: لأنهم لا يجدون ما ينفقون، ولا يجدون ما يحملهم، ففيه تقدير حرف محذوف.
وهذا يتضمن أنهم لا يجدون مركبا يركبونه، ولا نفقة ينفقونها.
وإنه يجب أن ننبه أن بعض الضعفاء الذين رفع عنهم الحرج بسبب ضعفهم، لم يرضوا بأن يكونوا قاعدين، وإخوانهم يجاهدون، بل ذهبوا وجاهدوا، وتقدم أحدهم وهو أعرج، قال لابد أن أكون بعرجي في الجنة، ولم يتراخ ولم يرض بالقعود، وذهب بعضهم وهو يهادى بين رجلين، حتى وصل إلى الصف ليموت مجاهدا، رضي الله عنهم.