وأما السؤال الثالث فقد جاء في قوله تعالى :
ويسألونك عن اليتامى قل إصلاح لهم خير وإن تخالطوهم فإخوانكم والله يعلم المفسد من المصلح ولو شاء الله لأعنتكم إن الله عزيز حكيم . والإجابة فيه وأساسها أيضا إماطة الأذى عن الجماعة الإسلامية ، فإنه إذا كان الإنفاق على الفقراء يحمي المجتمع من الفقر وأهواله وغوائله ، فحماية اليتامى وكلاءتهم تحمي المجتمع من أن يكون منهم شريرون يبغضون المجتمع ، ويجلبون له الويلات وهم في كنف المجتمع ورعايته . لقد سألوا عن اليتامى أيضمونهم إليهم ويأكلون معهم أم يدعونهم وأموالهم ، وكيف يرعونها ، وكيف يقومون عليها ; سألوا هذه الأسئلة وما يشبهها ، وقد قرأوا قوله تعالى : فأما اليتيم فلا تقهر وقوله تعالى : [ ص: 711 ] ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن وقوله تعالى : إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا وسيصلون سعيرا فكانوا من أمرهم في حيرة : إن قاربوهم وأموالهم يخشون على أنفسهم أن ينالوا إثما ، وإن تركوهم ضاعوا وهم في كفالة المجتمع كله ، فأمر الله نبيه أن يقول لهم أن المطلوب إصلاحهم ، فقال سبحانه : قل إصلاح لهم خير أي أن المطلوب إصلاحهم وإصلاح مالهم ، وذكر إصلاحهم ، لأنه المقصد الأول ، ولأن إصلاح مالهم إصلاح لهم ، وخير لكم ولهم ، وإصلاح حالهم بالتهذيب والتربية والعطف والمحبة ، والرأفة ، وعدم تكليفهم ما يشق عليهم ، لأن الغلظة معهم تربي فيهم الجفوة ، وتنشأ عنها القسوة ، فينشئون وهم يبغضون الناس ، ويتربصون بهم الدوائر .
وقد أثبت علم النفس الجنائي أن روح الإجرام تنبعث عند النشأة الأولى في الغلمان الذين يحسون بأن المجتمع يجفوهم ، ويغلظ عليهم فيخافونه ويبغضونه ، ويترقبون الفرصة السانحة ليستلبوا المال أو الأرواح ، أو ما يمكنهم أن يصلوا إليه ، فكان والخطر الكبير . لا بد من تربية اليتيم بالإصلاح والتهذيب ، وألا يقهر نفسه حتى لا يجفو فيكون من وراء ذلك الشر المستطير
وإذا كان المطلوب هو الإصلاح بكل وسائله ، وهو الغاية المطلوبة فإن كان الإصلاح بمخالطتهم وضمهم إليهم من غير أن تؤكل أموالهم ، فالمخالطة سائغة جائزة ، ولذا قال سبحانه : وإن تخالطوهم فإخوانكم أي عند المخالطة استشعروا أنهم إخوانكم في الدين والإنسانية وأبناء إخوانكم ، وعاملوهم بتلك الأخوة الرحيمة الرابطة ، ولا تنظروا إليهم شذرا ، وتؤكلوهم نزرا ، لأنهم غرباء عن بيتكم ، بل أشعروهم بأنهم دائما في بيت أهلهم وذويهم ، حتى لا تتربى نفوسهم على الجفوة فيبغضوا الناس ، ويتربصوا بهم الدوائر ، ويكون ذلك في طبعهم إذا كبروا وبلغوا أشدهم . .
[ ص: 712 ] ثم قال سبحانه والله يعلم المفسد من المصلح وهذا ترغيب في الإصلاح ، وترهيب من الفساد ; لأنه إذا كان يعلم المؤمن أن الله مطلع على ما يفعل ، تجنب الشر ، وآثر الخير ، فتجنب إهمال اليتيم لكيلا يفسد وعمد إلى تهذيبه لكي يكون عضوا عاملا في الجماعة يبني كما يبني غيره ، وتقوم الجماعة على سواعد قوية يشترك الجميع في إقامتها . ثم إنه إذا علم الله المصلح فسيجزيه خير الجزاء ، وما دام يعلم المفسد ، فحسابه وعقابه بمقدار فساده .
ثم قال سبحانه ولو شاء الله لأعنتكم العنت المشقة ، وأعنتكم : أوقعكم في المشقة ، وذلك بأن يترككم تهملون أيتامكم ، فيكونون إلبا عليكم في قابل حياتهم ، وشوكة في جنب الدولة ، ويكون منهم قطاع الطريق واللصوص والمنتهكون لحرمات المنازل ، ويفتكون بمجتمعكم ، وينزلون الأذى بكم ولكن الله سبحانه كان من رحمته أن دعاكم إلى العناية باليتامى ليكونوا عاملين بدل أن يكونوا هادمين ، وليكونوا قوة للجماعة بدل أن يكونوا قوة عليها هادمة في بنائها .
ثم ذيل الله سبحانه الآيات بقوله تعالى : إن الله عزيز حكيم للإشارة إلى ثلاثة أمور :
أولها : ، ومن أعزه أعزه الله سبحانه . أن الله سبحانه عزيز يعز من يشاء ويذل من يشاء فمن أذل يتيما أذله الله
وثانيها : ، إن خيرا فخير ، وإن شرا فشر . أن الله سبحانه وتعالى هو الغالب على كل شيء ، فهو الذي سيجزي القوامين على اليتامى بما يفعلون
وثالثها : أن هذا التنظيم هو من حكمته ورحمته ، فمن ، وليكون التراحم بين الناس ، وليضعف الشر فيهم ، ويكثر الخير والإنتاج ، والله سبحانه وتعالى بكل شيء عليم . رحمته بخلقه أن حثهم على معاونة اليتيم وإصلاحه ، والقيام على شئونه
* * *