معاني السورة الكريمة
قال تعالى:
بسم الله الرحمن الرحيم
الر كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير ألا تعبدوا إلا الله إنني لكم منه نذير وبشير وأن استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يمتعكم متاعا حسنا إلى أجل مسمى ويؤت كل ذي فضل فضله وإن تولوا فإني أخاف عليكم عذاب يوم كبير إلى الله مرجعكم وهو على كل شيء قدير ألا إنهم يثنون صدورهم ليستخفوا منه ألا حين يستغشون ثيابهم يعلم ما يسرون وما يعلنون إنه عليم بذات الصدور
* * *
إن ما نعلمه عن الابتداء بالحروف المفردة ذكرناه في أول سورة البقرة وآل عمران وأول سورة يونس، ولا يفيد هنا تكرار ما ذكرناه هناك، وإن التكرار بغير غرض مقصود لا يجوز ممن يتكلم في القرآن لأنه المنزه عن اللغو، فلا نلغو في معانيه. [ ص: 3660 ]
الر كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير
جاء ذكر الكتاب بعد الحروف المفردة التي فهم بعض المفسرين أنها رمز للكتاب الكريم، وفي كلمة (كتاب) التنكير للتعظيم، أي: أنه كتاب عظيم لا يطاول ولا يأتي أحد بمثله، أحكمت آياته أي: نسقت ألفاظه فهي متآخية في نغمتها وتآلفها وهو نسق بياني مؤتلف غير مختلف، ومعانيه متساوقة، فالخواطر تتسابق إلى النفس بإيماء من الله يمهد كل معنى لما يليه كعقد من الجواهر تتبع كل حبة أختها، وأحكم مدلوله لا يعروه تضليل ولا تبديل، ولا تناقض أو تضارب في معانيه، بل إنها متلاقية متعاونة مدعمة بالحجج والبراهين القاطعة الحاسمة تسير متهادية متصلة، ولكلمات الله المثل الأعلى.
ثم فصلت (ثم) للترتيب والتراخي، والتراخي هو التراخي المعنوي، ذلك لأن الناس ألفوا أن الكلام المحكم في نغمه وألفاظه وكلماته وأسلوبه لا يكون مفصلا في معانيه، أي: لا يكون مبينا واضحا، لأن النغم يشغل القارئين عن المعاني، ولكن هذا القرآن كتاب الله الخالد في الوجود الإنساني، كان مع حلاوة نغمه وتواصله وعباراته وتساوق معانيه مبينا مفصلا لأبواب الحلال والحرام والعقائد والمواعظ. والترتيب ليس للترتيب الزمني، إنما هو للترتيب الفكري والترابط النفسي فكلمة (ثم) هنا للترتيب والتراخي.
ولقد وأنى يكون، فيقول تعالى: أعطى الله تعالى القرآن شرفا إضافيا بعد شرفه الحقيقي في إعجازه وأنه لا يزال يتحدى الخليقة عربا وعجما أن يأتوا بمثله من لدن حكيم خبير كلمة من لدن معناها من عند، وقل أن تستعمل في القرآن الكريم في غير جانب الله العليم القادر. ويقول في معنى الآية الكريمة: الزمخشري أحكمت دون الباطل ثم فصلت كما تفصل القلائد الفرائد من دلائل التوحيد والأحكام والمواعظ والقصص. إذ جعلت فصولا سورة سورة، وآية آية ووقت في التنزيل فلم تنزل جملة واحدة، فإن قلت ما معنى كلمة (ثم); قلت: ليس معناها التراخي في الوقت بل في الحال، فتقول هي محكمة أحسن [ ص: 3661 ] الإحكام ثم مفصلة أحسن التفصيل، وفيه طباق حسن لأن المعاني أحكمها حكيم، وفصلها، - أي: بينها وشرحها خبير عالم، أي: قوله تعالى: حكيم خبير فيه هذا الطباق بين أحكمت وفصلت، ووصفها الله تعالى بأنها من لدن حكيم خبير