[ ص: 943 ] لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها والله سميع عليم ( 256 الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون
* * *
في الآيات السابقة بين الله سبحانه وتعالى أمرين :
أحدهما : المغالبة بين أهل الحق وأهل الباطل ، وأن تلك مشيئته الأبدية الأزلية منذ خلق بني آدم على ذلك التكوين الذي يضم فيه كل آدمي بين جنبيه نزوع الخير ونزوغ الشر ، ومنذ قال لآدم وحواء وإبليس : اهبطوا بعضكم لبعض عدو ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين
الأمر الثاني : هو ما يجري حوله الخلاف بين أهل الحق الذين يستمسكون بالهدى والنور ، وأهل الباطل الذين يستمسكون بالضلالة ; وذلك الأمر هو وحدانية الله سبحانه وتعالى في الألوهية ، وفي الخلق والتكوين ، وفي المشيئة والإرادة وفي الذات والصفات : ليس كمثله شيء وهو السميع البصير وإن هذا أمر تقره بداهة العقول ، ولا مجال فيه للريب فما كان ينبغي القتال حوله ، ولكن من ضل وغوى أيجوز إكراهه على الدخول في ذلك النور بحكم تلك المغالبة بين الحق والباطل المقررة في هذا الوجود ؟ أجاب الله سبحانه وتعالى عن ذلك السؤال الذي يتردد في قلب كل من يؤمن بالحق ، إذ يكون واقفا أمام حق نير واضح مستبين ، ولجاجة في باطل مظلم ، وقد تكون الهداية أن يقضى على تلك اللجاجة الآثمة .
[ ص: 944 ] وقد كان جواب الله العلي القدير ، كلاما محكما لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، هو قول الحق :
لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي نفت الجملة الأولى من هاتين الجملتين الساميتين ، وبينت الجملة الثانية علة هذا النفي ، وكيف تدرك الأديان ، ومهمة الداعي إليها ; فأما النفي الذي قررته الجملة الأولى فهو يتضمن أمرين : الإكراه في الدين
أحدهما : تقرير حقيقة مقررة ثابتة ، وهو أن الإكراه في الدين لا يتأتى ; لأن التدين إدراك فكري ، وإذعان قلبي ، واتجاه بالنفس والجوارح بإرادة مختارة حرة إلى الله سبحانه وتعالى ، وتلك معان لا يتصور فيها الإكراه ; إذ الإكراه حمل الشخص على ما يكره بقوة ملجئة حاملة ، مفسدة للإرادة الحرة ، ومزيلة للاختيار الكامل ، فلا يكون إيمان ولا تدين ، إذ لا يكون إذعان قلبي ، ولا اتجاه حر مختار بالنفس والجوارح إلى الله رب العالمين .
الأمر الثاني : الذي تضمنه نفي الإكراه هو النهي عن وقوعه ، فلا يسوغ للداعي إلى الحق أن يكره الناس حتى يكونوا مؤمنين ; لأن الإكراه والتدين نقيضان لا يجتمعان ، ولا يمكن أن يكون أحدهما ثمرة للآخر ، ونتيجة له ; لأنه كلما حمل الإنسان على أمر بقوة قاهرة غالبة ازداد كرها له ونفورا منه .
فالنفي عن الإكراه إذن تضمن نفي تصوره في شئون الدين ، ونفي المطالبة به ، أو بالأحرى نهي الداعي إلى الحق عن سلوك سبيله ; لأنه ليس سبيل المؤمنين ، وليس من الموعظة الحسنة في شيء : ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين
هذه معاني الجملة الأولى السامية ، أما الثانية وهي : قد تبين الرشد من الغي فمعناها قد تبين وجه الحق ولاح نوره ، وتبين الغي ، وهو الضلال والبعد عن محجة الحق ، وطمس معالمه ، وهذه الجملة السامية تفيد أمرين كسابقتها : [ ص: 945 ] أحدهما : أن طريق التدين هو بيان الرشد ، وبيان الصواب ، وبيان الضلال في وسط النور ; فمن رأى الحق بينا فقد أدرك السبيل ، وعليه أن يسير فيها ، وليس لأحد أن يحمله حملا ; لأنه لا سبب للتدين إلا المعرفة ، بإدراك الحق وغايته ، ومعرفة الباطل ونهايته . وذلك المعنى في مرتبة التعليل للنهي عن الإكراه ونفيه ، لأنه إذا عرف الحق معرفة مثبتة له بالأدلة القاطعة ، وعرف الباطل معرفة مبينة وجه الضلال فيه ، فقد توافر سبب التدين ، ومن كفر بعد ذلك فعن بينة كفر ، ولا سبيل لهدايته ، وليتحمل مغبة كفره بعد هذه البينات الواضحة الكاشفة .
الأمر الثاني : الذي يدل عليه قوله تعالى : قد تبين الرشد من الغي هو بيان أقصى قدر من التكليف للداعي إلى الحق من الرسل ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين ، ، إنما هو مكلف أن يبين الهدى من الضلال ، والهداية بعد ذلك من الله سبحانه وتعالى : فليس على الداعي إلى الحق إلا تكليف واحد ، وهو بيان الرشد من الغي ، فهو لم يكلف حمل الناس على الهدى إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء
وإذا كان الرشد قد تبين من الغي وتميز ، ولم يعد مختلطا به ، بل خلص منه ، وخرج نيرا واضحا . كما يخرج النور من الظلمة عند انبثاق فجر الحقيقة ، وظهوره ساطعا منيرا هاديا ، إذا كان الأمر كذلك فعلى كل طالب للتدين أن يسلك سبيل الحق ، ومن بقي مترديا في الباطل ، فعليه إثم بقائه ، وما عليك من أمره شيء ، ولذا قال سبحانه : فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها الطاغوت أصله مأخوذ من الطغيان ، ويؤدي معنى الطغيان ، وإن اختلف علماء اللغة في أصل اشتقاقه ، وفي وزنه الصرفي .
والطاغوت يطلق في القرآن على كل ما يطغى على النفس فيسيطر عليها ، أو على العقل فيضله ، أو على الأمة فيتحكم فيها ظلما ، أو على الجماعة فينشر فيها أهواء مردية ، وآراء فاسدة ; ولذلك يطلق الطاغوت على الكاهن ، والشيطان ، وكل رأس للضلال . وقد جاء في تفسير القرطبي : قد يكون واحدا ; قال الله تعالى : [ ص: 946 ] يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به وقد يكون جمعا ، قال الله تعالى : أولياؤهم الطاغوت
وما المراد بالطاغوت هنا ; الظاهر أن الطاغوت هو كل طغيان يطغى على النفس أو العقل أو الجماعة ، فيتسلط عليه ، ويمنعهم من اتباع الحق من زعماء يقودونها إلى الضلال ، أو ملوك يسوقونها إلى الباطل سوقا ; ولعل أظهر معاني الطاغوت أن يفسر بالملوك المتحكمين والكبراء المتجبرين الذين يفتنون الناس عن دين الحق ، ويكرهونهم على اعتناق الباطل . وقد سوغ لنا استظهار ذلك ما جاء من نفي الإكراه في الدين سابقا لهذه الجملة السامية ، وما سيق بعد ذلك من قصة ملك متجبر يريد أن يتحكم في عقائد الناس وأهوائهم ، فإن ذلك يومئ لنا أن نفهم من كلمة الطاغوت بأنه الحاكم المتجبر ، أو الكبير المسيطر ، أو الملك القاهر بالباطل ، ويكون المعنى : فمن يكفر بالطاغوت ، أي يزيل سلطان المتجبرين عن نفسه ، ويمنع تحكم المسيطرين على قلبه ، ويحرر عقله من أوهام الطغيان ، ويؤمن بالله ، فقد استمسك بالعروة الوثقى . أي اعتمد على جانب قوي ، وعماد على لا يهن من اعتمد عليه ، ولا يسقط من ركن إليه ، وفي ذلك إشارة إلى أمرين :
أحدهما : أن ، فمن تحرر من ربقة الطاغوت تتكشف له الحقيقة العالية فيؤمن بها ، ويدركها ، ويعتصم بالله سبحانه وتعالى . لا يحجب النفوس عن الإيمان بالله إلا طغيان المتجبرين عليها ، وسيطرة أوهام الكبراء
ثانيهما : إرشاد ضعفاء النفوس ومن أصاب الخور عزائمهم وأماتت الأوهام ثقتهم بأنفسهم أنهم إن رفضوا سلطان الطغاة ، وحاجزوا بينهم وبين قلوبهم ، فقد أمنوا ، ولن يصيبهم ضير إن آمنوا ; لأنهم آووا إلى ركن شديد ، وإلى معتصم حصين ، فلن تضيرهم مخالفة الملوك وغيرهم ; لأن سلطانهم وهمي ، وسلطان الله حقيقي ، وقوتهم فانية ، وقوة الله أزلية باقية ، فمن آمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها .
[ ص: 947 ] والعروة في أصل معناها اللغوي تطلق على ما يتعلق بالشيء من عراه أي ناحيته ، فالعروة من الدلو والكوز المقبض ، ومن الثوب مدخل الزر ; وتطلق العروة أيضا على الشجر الملتف الذي تأكل منه الدواب حيث لا كلأ ولا نبات .
والوثقى مؤنث الأوثق ، وهو الشيء المحكم الموثق ، وتطلق كلمة الموثق أيضا على الشجر الذي يتجه إليه الناس عندما ينقطع الكلأ . والانفصام الانكسار ، وهو مطاوع فصم بمعنى كسر ; وإنما تكون المطاوعة حيث يحتاج الفصم إلى معالجة ، أي أن الشيء المفصوم يكون قويا ، بحيث يعالج الشخص كسره حتى ينكسر بعد طول المحاولة وعلى ذلك فالعروة الوثقى في الآية إما أن تخرج على أنها الحبل الموثق الشديد الأسر الذي يربط بين شيئين ، ويكون المعنى : من آمن بالله وكفر بالطاغوت فقد استمسك ، أي أمسك بقوة وشدة طالبا العصمة بحبل موصول موثق قوي لا انفصام له . وقد تخرج العروة على أنها الشجر الذي لا يوجد سواه للمرعى والغذاء ، فيكون من كفر بالطاغوت وآمن بالله فقد اتجه وأخذ الجانب المفيد المربي المغذي وترك الجدب الذي لا يجدي . وقد مال إلى التخريج الأول ، وهو عندي أوضح وأشهر . الزمخشري
والاستمساك كما أشرنا هو الإمساك المطلوب المستقر ; لأن السين والتاء تدل على الطلب ، والطلب هنا يفسر بأنه هجر الطاغوت طلبا للاعتصام بهذا الجانب القوي الذي لا يضل من طلبه ، ويصل إليه من اعتمد عليه ولم يطلب سواه . وقد ذكر في تفسيره أن هذا التعبير الكريم كله الزمخشري فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها فيه تمثيل وتصوير للمعاني السامية بالأشياء المحسوسة فقال : ( هذا تمثيل للمعلوم بالنظر والاستدلال بالمشاهد المحسوس حتى يتصوره السامع كأنما ينظر إليه بعينه ، فيحكم اعتقاده والتيقن به ) .
هذه هداية الله سبحانه وتعالى ، لا يكره أحد عليها ، ولكن يدعى الناس إليها بالبينات الواضحة التي يتميز بها الخير من الشر ، والحق من الباطل ، والنور من [ ص: 948 ] الظلام ، وبعد ذلك " يكون الأمر لله تعالى ، ولقد ذيل سبحانه الآية بقوله تعالى والله سميع عليم وفي هذا إشارة إلى أمرين جليلين :
أولهما : رقابة الله سبحانه وتعالى في الدنيا رقابة العليم الخبير ، فهو يعلم علم من يسمع همسات القلوب ، وخلجات الأنفس ، وهو وحده المتصف بالعلم المطلق الذي لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها ، ولا يعزب عنه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء ، ولا في الأنفس ; وإذا كان المؤمن يحس برقابة الله تعالى المطلقة فإنه يتجافى عن المعاصي ، ويبتعد عنها استحياء من الله ، فقوة الإحساس بعلم الله ترهف وجدان المؤمن وهذا مقام الإحسان كما في الحديث الشريف " اعبد الله كأنك تراه ، فإن لم تكن تراه فإنه يراك " .
الأمر الثاني : التنبيه إلى ، والعذاب الأليم وغضب الله لمن عصاه سبحانه . ما يترتب على العلم من الرضوان والثواب المقيم الدائم لمن أطاع الله وطلب رضاه
هذه الآية الكريمة واضحة كما قررنا في حقيقتين ثابتتين :
إحداهما : أن التدين لا يكون مع الإكراه ، لأن الإكراه ينافي الاختيار الحر ، والتدين طلب الحق والأخذ به في حرية واختيار لا تشوبهما شائبة .
الحقيقة الثانية : . وكثرة المنافقين ، وإن كثر عدد المسلمين في الظاهر ، تفسد جماعتهم في الحقيقة والواقع . أن الله سبحانه وتعالى ينهى عن الإكراه في الدين ، وحمل الناس عليه بقوة السيف حتى لا يكثر النفاق والمنافقون
ولكن مع هذا الحق السائغ ، والنور المبين ، وجدنا الكثيرين يدعون أن هذه الآية منسوخة ، وادعوا أن الذي نسخها قوله تعالى في آيات كثيرة من آيات الجهاد ما يدل على القتال ، حتى يكون الإسلام مثل قوله تعالى : يا أيها النبي جاهد الكفار [ ص: 949 ] والمنافقين واغلظ عليهم . . . ومثل قوله تعالى : ستدعون إلى قوم أولي بأس شديد تقاتلونهم أو يسلمون وقوله تعالى : يا أيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار وليجدوا فيكم غلظة واعلموا أن الله مع المتقين
ففي هذه الآية تصريح ، وفي بعضها جعلت غاية القتال أن يسلموا ، ولقد ورد بالقتال والغلظة مع الكفار . أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لرجل : " أسلم " قال إني أجدني كارها ، فقال - صلى الله عليه وسلم - : " وإن كنت كارها "
والحق أن حكم هذه الآية لا إكراه في الدين ماض إلى يوم القيامة ; لأنها تؤيد حقيقة ثابتة ، وتزكيها آيات أخرى ، وأحاديث للنبي - صلى الله عليه وسلم - ، فإن الله سبحانه وتعالى يقول : ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين
وإن الباعث على القتال كما تصرح آيات القتال هو دفع الاعتداء ، فقد قال تعالى : أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير وقال تعالى : وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا وجعل سبحانه وتعالى نهاية القتال أن تنتهي الفتنة في الدين ، والإكراه عليه ، فقد قال تعالى : وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله فإن انتهوا فلا عدوان إلا على الظالمين وهكذا فليس القتال في الإسلام للإكراه على الدين لأن الدين اختيار ورضا ، ولا اختيار أو رضا مع الإكراه ، والآيات الواردة بالأمر بالجهاد كلها محمولة على حال الاعتداء ، أو التحفز للاعتداء ، فلا يسوغ لمؤمن أن ينتظر حتى يغزى ; فإنه ما غزي قوم في عقر دارهم إلا ذلوا .
وحياة النبي - صلى الله عليه وسلم - في مكة والمدينة تنبئ عن منع الإكراه في الدين ، فقد كان - صلى الله عليه وسلم - في مكة هو ومن معه من المؤمنين في اضطهاد ومحاولة لفتن الضعفاء منهم عن دينهم ، وحملهم على تغيير اعتقادهم وأنزلوا بهم من الأذى والعذاب ما لا تحتمله النفس البشرية حتى اضطر بعضهم إلى النطق بكلمة الكفر وقلبه مطمئن بالإيمان ; [ ص: 950 ] ولما انتقل إلى المدينة لم يحارب أحدا إلا بعد أن شنوا عليه الغارة ، أو استعدوا لها ، وألبوا عليه ، وكان على ذلك إلى أن انتقل إلى الرفيق الأعلى .
وإن حديث النبي - صلى الله عليه وسلم - الذي قال فيه لرجل : " " لا يدل على جواز الإكراه في الدين ; لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - ما أكرهه بالسيف أو بالأذى على أن يسلم ، بل إن الرجل بدت له البينات الواضحات ، والحجج النيرات ، ومع ذلك كان مأخوذا بما ألف ، كارها بعاطفته لأن يغير ما كان عليه آباؤه ; فالنبي - صلى الله عليه وسلم - يوصيه بأن يتغلب على إحساسه ويتبع البرهان والدليل ; وكثير من الناس يبدو له وجه الحق واضحا ، وتلوح له بيناته باهرة ، ومع ذلك يكره السير في هذا النور ، اتباعا لما كان معروفا ، وسيرا وراء ما كان مألوفا ; فمثل هذا عليه أن يتبع الحق ولو كان كارها ، وأن يستولي على نفسه فيحملها على اتباع الحق ولو كرهته ; والطاعات قد تثقل على النفوس ، ولكن يجب اتباعها ; ولذا قال - صلى الله عليه وسلم - " أسلم وإن كنت كارها " فحديث النبي - صلى الله عليه وسلم - لهذا الرجل من هذا الباب . حفت الجنة بالمكاره
بعد هذا البيان نكرر ما قررنا وهو أن هذه الآية محكمة غير منسوخة ، وخصوصا أن ادعاء النسخ لا دليل عليه ، وإن النسخ لا يصار إليه إلا إذا لم يمكن التوفيق بين الآيتين ، فلو أمكن التوفيق ولو بتخصيص إحدى الآيتين لوجب السير إلى التخصيص دون النسخ ; وإن التوفيق هنا ممكن بين آيات القتال وهذه الآية ، بل إن شئت الحق فقل إنه لا تعارض حتى تكون محاولة التوفيق ، فما كان القتال لحمل الناس على الإسلام ، بل كان القتال لدفع الاعتداء أولا ، ولكي يخلو الوجه للدعوة الإسلامية ثانيا ، ولتكون كلمة الحق هي العليا ثالثا ، والناس في كل الأحوال أحرار فيما يعتقدون وما يؤمنون به إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء
ولقد روي في سبب نزول هذه الآية : لا إكراه في الدين أن رجلا من الأنصار من بني سالم بن عوف يقال له الحصين ، كان له ابنان نصرانيان ، وكان هو [ ص: 951 ] مسلما ، فقال للنبي - صلى الله عليه وسلم - : ألا أستكرههما فإنهما قد أبيا إلا النصرانية ؟ فنزلت هذه الآية . وفي رواية أخرى أنه حاول إكراههما فاختصموا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فقال الأنصاري : يا رسول الله يدخل بعضي النار وأنا أنظر إليه ! فنزل قوله تعالى : لا إكراه في الدين .
وقد كان المسلمون يسيرون على هذا المبدأ وهو لا إكراه في الدين ويروى في ذلك أن رضي الله عنه قال لعجوز نصرانية : أسلمي تسلمي ، إن الله بعث عمر بن الخطاب محمدا بالحق ، فقالت : أنا عجوز كبيرة والموت إلي قريب . فقال رضي الله عنه : اللهم اشهد ، وتلا عمر لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي .
* * *