الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله ثم لا يتبعون ما أنفقوا منا ولا أذى لهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون الإنفاق في سبيل الله ، سبيل النفع العام ، يثمر ثمراته من الخير العميم ; لأن العطاء المادي ينتج نتائجه من معونة في الجهاد ، وسد للثغور ، ومنع للأذى ، ودفع للكرب ، ولكن المنفق لا يستحق ثواب الإنفاق إلا إذا كان طيب النفس في عطائه لا يرنقه من ولا أذى ولا رياء ; ; فإن النتائج للأعمال ، أما الثواب فللنيات ; كما قال - صلى الله عليه وسلم - : " فالصدقة [ ص: 975 ] تنتج آثارها في الجماعة حتما ، مهما تكن نية صاحبها ، ولكن صاحبها لا ينال أجر المنفق إلا إذا خلصت نفسه من هذه العناصر الثلاثة : المن ، والأذى ، والرياء " . إنما الأعمال بالنيات ، وإنما لكل امرئ ما نوى
والمن : أن يعد الإنسان إحسانه على من أحسن إليه ، متطاولا به عليه ، مبينا له : أنها فضل ساقه إليه ، غير مشكور ، وإن ذلك فيه اتجاه إلى طلب المثوبة من العبد ، لا من الرب ، فله ما اختار . ولقد قال في تفسيره : " صنوان من منح سائله ومن ، ومن منع نائله وضن " ولقد قال - صلى الله عليه وسلم - : " الزمخشري " . ثلاثة لا يدخلون الجنة : العاق لوالديه ، والمدمن الخمر ، والمنان بما أعطى
والأذى : أن يصدر عنه ما يؤلم من يأخذ ولو بغير من ، كأن يقول له : ألا تعمل ! أو يتجهم في وجهه عند العطاء ، أو ينتقد بغير الحق الذين قاموا على المال الذي جمع لوجه عام . ويروى أن امرأة قالت لصحابي : دلني على رجل يخرج في سبيل الله حقا ، فإنهم إنما يخرجون يأكلون الفواكه ، فإن عندي أسهما وجعبة ، فقال : " لا بارك الله في أسهمك وجعبتك فقد آذيتهم قبل أن تعطيهم ! ".
ولماذا كان المن والأذى مانعين للأجر ; لأن الأجر هو جزاء من الله ، فمن تصدق يبتغي وجه الله فله ثوابه ، ومن من أو آذى فقد قصد غير وجه الله فليس له أن يطلب ثوابه . ولقد قال في ذلك : ابن جرير الطبري
( ; لأن النفقة في سبيل الله مما ابتغى به وجه الله وطلب به ما عنده ; فإذا كان معنى النفقة في سبيل الله هو ما وصفنا ، فلا وجه لمن المنفق على من أنفق عليه ; لأنه لا يد له قبله ، ولا صنيعة يستحق بها عليه - إن لم يكافئه عليها - المن والأذى إذا كانت نفقة ما أنفق عليه احتسابا وابتغاء ثواب الله وطلب مرضاته ، وعلى الله مثوبته دون من أنفق عليه ) . أوجب الأجر لمن كان غير مان ولا مؤذ لمن أنفق عليه في سبيل الله
[ ص: 976 ] وقد بين سبحانه جزاء الذين ينفقون على هذا الوجه لا يبتغون إلا رضاء سبحانه ، ولا يرجون ثوابا من أحد سواه ، فذكر جزاءين عظيمين :
أولهما : لهم أجرهم عند ربهم أي لهم جزاؤهم مكافأة لهم على أعمالهم
وسماه سبحانه وتعالى أجرا ، وهو المعطي الوهاب ، توثيقا للعطاء ، وقال سبحانه : " لهم " ، ولم يقل مثلا : " أعطيهم " ، ولكلام الله تعالى المثل الأعلى للإشارة إلى أنه كان لهم بنياتهم ، واستحقوه باحتسابهم ، وليعلمهم كيف يكون العطاء من غير أجر ; إنه سبحانه وتعالى هو الذي منحهم المال الذي أعطوا منه ، وهو الذي وفقهم لأن يعطوا ، وهو الذي يملكهم وما ينفقون وما يعملون ، ومع ذلك يسمي ما يعطيهم أجرا قدموا مثيله من قبله مع أنه يعطيهم أضعافا كثيرة عنه ، ولكنه يعلم الناس كيف يكون البعد عن المن ، وكيف العطاء غير ممنون .
الجزاء الثاني الذي ذكره رب العالمين هو الأمن والاطمئنان ; ولذا قال سبحانه : ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون وقد نفى سبحانه وتعالى الخوف ، ولم يقل لا يخافون ; لأن الخوف أمر نفسي ، وقد يكون من غير مخوف ، وتكون الخشية والخوف من شأن المؤمن شعورا بتحمل التبعة ; ولذا نفى سبحانه الخوف أي الأمر المخوف ، أي لا ينزل بهم أمر من شأنه أن يخافوه ، ولم ينف الخشية النفسية في ذاتها ; إذ الحال النفسية من قوة الإحساس ; ولذا يقول الصوفية : غلب الخوف على الرجاء . أما الحزن وهو الهم الذي يصيب القلب فهو منفي في كل صورة ولا يصح أن يكون حالا من حالات الإيمان .
وما الخوف المنفي والحزن ؟ أهما ما يكونان في الآخرة ; جل العلماء على ذلك ، ولكن لماذا لا يراد ما هو أعم من أحوال الدنيا والآخرة ; وإن ذلك ما نختاره ; لأن ، فيكون الأمن في الداخل والخارج معا ، فالمنفقون في سبيل الله لا خوف عليهم في الدنيا ، ولا يحزنون في الدنيا أيضا كما أنهم لا خوف عليهم في الآخرة ولا يحزنون . الإنفاق في سبيل الله يدفع خطر الأعداء من خارج الأمة ، ويجمع الوحدة ويقضي على أسباب الفتن الداخلية
[ ص: 977 ] وقبل أن ننتقل إلى الآية الثالثة من آيات الإنفاق ننبه إلى بحثين لفظيين : أولهما : أن الله سبحانه وتعالى كرر النفي فقال : ثم لا يتبعون ما أنفقوا منا ولا أذى لتأكيد النفي ، بألا يصدر عنهم أي نوع من أنواع الأذى ، فلا يكون من ، ولا شبهة من ، ولا أذى ، سواء أكان أذى عن قرب أو بعد ; حتى لقد قال بعض الصالحين : ( لئن ظننت أن سلامك يثقل على من أنفقت عليه تريد وجه الله فلا تسلم عليه ) .
وثانيهما : إنه سبحانه وتعالى عطف بـ ( ثم ) في قوله تعالى : الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله ثم لا يتبعون ما أنفقوا منا ولا أذى فلماذا كان العطف بـ ( ثم ) دون الفاء ؟ فهل مقتضى هذا أنه يسوغ المن والأذى عند العطاء ، ولا يسوغ بعده بفترة من الزمان ؟ والجواب عن ذلك أن التعبير بـ ( ثم ) أفاد النفي المطلق على عدم اتباع الإنفاق بالمن والأذى في زمن قريب أو بعيد ; لأن المنفق في غالب الأحوال يكون عند إنفاقه في حال حماسية نفسية تدفعه إلى الإنفاق ، فما يفكر في من ولا أذى وقته ، وإن خطر له ذلك فقد يمنعه من الإعطاء ، إنما يكون التفكير في المن أو الأذى بعد ذهاب فورة الخير في النفس ، فإذا كان الله سبحانه قد صدر النفي بـ " ثم " فليحث المنفق على الاستمرار على نزعة الخير ، ولا ينكص على عقبيه ، فيفسد نيته بأذى يؤذي به من أجرى الخير على يديه ، أو من يمن به على من أعطاه .
* * *